الثورة في
سوريا بوصفها آخر موجات
الربيع العربي الذي خرج من تونس؛ تحولت اليوم وبعد خمس سنوات من انطلاقتها السلمية التي تواصلت أكثر من ستة أشهر إلى
حرب استعمارية توسعية، تهدف إلى تقسيم البلاد وإعادة تقسيم المنطقة بما لا يدع مجالا للشك في نوايا الأساطيل والجيوش المحتشدة على البوابات البحرية والجوية والبرية لأرض الشام.
ليس مدار الحديث هنا عن كيف وصل العدو إلى ديار الشام، بما هو جماعات مقاتلة تنشر الرعب، أو بما هو دول استعمارية تنشر رعبا من نوع آخر وتحصد أضعاف أضعاف الأولى من الموت والتخريب والدمار، لأنها ستضع أسس الفوضى التي لن تنتهي على المدى القصير والمتوسط في أرض الشام نسخا على حال دولة العراق. مدار الحديث هنا في سياقه الخاص إنما عن الطريقة التي بها حوّل واحد من أشرس الأنظمة الاستبدادية في التاريخ الحديث ثورةَ شعب طالب بالحرية والكرامة إلى مذبحة مفتوحة منذ خمس سنوات.
الثورة السورية ليست ثورة يتيمة بل هي حبة أصيلة في عقد الثورات العربية التي انطلقت ذات شتاء من أرياف تونس العميقة؛ لتمتدّ بعد ذلك إلى كل المنطقة وتعصف في لمح البصر برؤوس كثيرة خلناها لعقود عصيّة على السقوط فترنحت ثم وقعت. لكن لا أحد كان يتصور في غمرة النشوة بالثورة وبالنصر على الطغاة العرب من "بن علي" إلى "مبارك" مرورا "بالقذافي" أن الدولة العميقة أعمق مما نتصور، وأن جذور الاستبداد أذهب في الأرض وفي مفاصل الدولة من الرسم الخارجي.
بل لا أحد كان يتصور حتى في أسوء كوابيسه أن النظام الرسمي العربي قادر على الذهاب إلى ما ذهب إليه النظام السوري من المرور؛ من القمع الوحشي إلى الاستقواء بالأجنبي لقمع شعبه وقتله وترويعه، مثلما يحدث اليوم على يد الكتائب الإيرانية والطائرات الروسية والأمريكية والصهيونية.
لكن أين داعش من كل هذا؟ داعش أو هذا الغول نبت فجأة في بلاد الشام وخرج من العدم لينقذ نظام
الأسد المترنح لا ليمنعه من السقوط، بل ليؤجل سقوطه لحين تستوي خطط تقسيم الغنائم في مرحلة ما بعد النظام. داعش جاء في سياق الربيع العربي وجاء ردة فعل على سلمية الجماهير الهادرة في الميادين والساحات من أجل نسف صورة حقيقية أصلية عن الإنسان العربي ووضع أخرى صناعية مزيفة. كيف ذلك؟
من يستطيع أن ينكر أن الثورات كانت ثورات سلمية بامتياز، وأنها ترجمت الطبيعة الحقيقية للإنسان العربي باعتباره الأكثر نزوعا إلى السلمية؛ وقد واجه بصدور عارية فرق الموت من القناصة والبلطجية والكتائب والمجرمين؟ هذا الإنسان الذي تحمّل عقودا من الحكم تحت أشكال مختلفة من أعتى الأنظمة القمعية والدموية لم يحمل السلاح في وجه الحاكم بل خرج رافعا سلاحه الوحيد " الشعب يريد إسقاط النظام". هذا الإنسان الذي ارتُكبت في حقه أبشع الجرائم من تدمير لقيمه ومسخ لهويته وتحطيم لآماله ورهن لمستقبله ومستقبل أبنائه ودُفع دفعا نحو الجريمة و التطرف و الهجرة و الانتحار ... لم يحمل السلاح بل فجّر آخر الثورات السلمية في التاريخ الحديث.
خلافا لأهم الثورات المعاصرة كالثورة البلشفية والثورة الفرنسية والثورة الخمينية، لم تكن الثورات العربية ثورات دامية من جهة الثوار أي أن الثورة لم تنصب المشانق التي نصبها الروس والفرنسيون والفرس، بل قدّمت أنصع دروس السلمية التي عجزت عن تقديمها كل ثورات التاريخ الحديث والقديم. عدلت الثورات عن العنف إذن لوعي منها بأن الاستبداد العربي- وكيلا لقوى الاستكبار العالمي- لا ينتظر غير نزوعها إليه حتى يسحق الثورة والثوار مثلما فعل النظام في مناسبات عديدة في سوريا والجزائر ومصر في غير مناسبة.
لكن كلّ ذلك لم يمنع من الدفع بها دفعا نحو العنف ونحو الاحتراب الذي نراه في كل دول الربيع بدءا بمصر وليبيا واليمن وسوريا، حيث لم يكن من ملجأ للطاغية العربي ودولته العميقة غير تفعيل آلية الإرهاب والدفع نحو العنف والعنف المضاد بشكل يبرر كل أشكال القمع والتنكيل.
اليوم تشرّع المنطقة على الغزو وتفتّح أبوابها وحدودها من أجل التدخل الخارجي وتتقدم جيوش الغزاة بحجج قديمة، تمتد من أسلحة الدمار الشامل إلى داعش إلى نشر الديمقراطية إلى غيرها من الذرائع التي تُخفي طمعا في اقتسام الغنيمة، لأن الحاكم العربي لم يكن في نهاية المطاف غير حارس أمين لشركات النهب العالمية وضامنا لعقود الاستعمار الاقتصادي وساهرا على منع الشعوب من اليقظة والنهضة وبناء الأوطان. فإن هو عجز عن ذلك فزعت جحافل الموت لإنقاذه كما في سوريا، أو تعويضه كما في مصر، أو زرع الفوضى بعده كما في ليبيا و تونس واليمن، وهي جافل تسعى طبعا إلى نشر الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والنهوض بأوضاع الأطفال خاصة في سوريا بواسطة البراميل تارة والقنابل الفسفورية طورا آخر والغازات السامة في طور ثالث.