كتب محمد عايش: لا يوجد أي احتمالات لاندلاع حرب عالمية ثالثة، ولا لاندلاع حرب شاملة أو مواجهة مباشرة بين
روسيا وتركيا، أما حادث إسقاط
الطائرة الروسية من قبل القوات الجوية التركية، فأغلب الظن أنه سيمر مرور الكرام، والتصعيد ليس خياراً متاحاً أمام روسيا، ليس فقط لأن موسكو متورطة في
سوريا، وإنما أيضاً لأن
تركيا اليوم ليست كتركيا الأمس، فهي ليست دولة عابرة ولا طارئة ولا ضعيفة، وإنما هي قوة صاعدة يتوقع أن تلعب دوراً بالغ الأهمية في المنطقة خلال العقود المقبلة.
تمثل تركيا اليوم الدولة الأهم في المنطقة على الإطلاق، ويتوسع دورها السياسي تدريجياً في المنطقة مع التغيرات والتقلبات الاستراتيجية والجذرية الجارية حالياً، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن منطقة الشرق الأوسط ستضم قوتين متنافستين لا ثالث لهما خلال العقود المقبلة: تركيا وإيران. خاصة أن الولايات المتحدة وحلفاءها من القوى الغربية التقليدية ينسحبون من المنطقة تدريجياً منذ عشر سنوات، بعد أن فشل المشروع الأمريكي في العراق، وفشل مشروع المحافظين الجدد في إعادة بناء وتشكيل المنطقة.
لم تعد تركيا دولة عابرة ولا ضعيفة؛ فخلال سنوات الفشل الأمريكي العشر (2005 حتى 2015) كان رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم يقومون بتحويل بلادهم الى أسطورة، تعيد التذكير بالمعجزة اليابانية وبالنمور الآسيوية، ففي عشر سنوات فقط تحولت تركيا إلى عملاق اقتصادي وسياسي وعسكري وأصبحت رقماً يصعب تجاهله أو تجاوزه.
اقتصادياً، دخلت تركيا نادي «العشرين الكبار»، وأصبحت الاقتصاد الأول في منطقة الشرق الأوسط، وفي نهاية عام 2013 كانت قد تربعت على عرش المركز الــ17عالمياً من حيث حجم اقتصادها وحجم ناتجها المحلي الاجمالي (1.3 تريليون دولار)، في الوقت الذي كانت فيه أكبر اقتصادات العالم تغرق في أزمة مالية بدأت في عام 2008، ثم تفاقمت في عام 2010 بعد أزمة الديون السيادية الأوروبية التي بدأت في اليونان، الخصم والمنافس التقليدي لتركيا.
أما عسكرياً، فلدى تركيا اليوم الجيش الأكبر والأقوى في المنطقة. قواتها البرية قوامها 600 ألف مقاتل، وإذا أضفنا اليهم قوات الاحتياط وقوات الدرك فإن الجيش التركي يزيد عن مليون مقاتل، أما العتاد فلدى أنقرة برنامج لتطوير التكنولوجيا العسكرية منذ عام 2005 أنفقت عليه ملايين الدولارات، وربما المليارات، فيما لا تزال المعلومات شحيحة حول ما تمكن الأتراك من تطويره فعلاً من تكنولوجيا عسكرية، إلا أن المؤكد اليوم أنهم القوة العسكرية الثانية في حلف «الناتو» بعد الولايات المتحدة، وأنهم القوة العسكرية السادسة على مستوى العالم، متفوقين بذلك على «إسرائيل» التي ظلت بعبعاً يُرعب العرب طوال العقود الستة الماضية. تبعاً لتحول تركيا الى عملاق اقتصادي وعسكري، فإن النفوذ السياسي لها أصبح يتنامى في المنطقة، مستغلة حالة الفراغ التي خلفها الفشل الأمريكي والهروب من المنطقة، كما أنها تتوسع سياسياً مدفوعة أيضاً بالمد الايراني والرغبة في التصدي له، على اعتبار أن ايران هي القوة الوحيدة المؤهلة لمنافسة تركيا في المنطقة مستقبلاً.
أما المعطيات التي أمامنا فلا يوجد ما يدفع الى الاعتقاد بأن ثمة احتمالات لأي مواجهة عسكرية بين روسيا وتركيا حتى لو تكرر حادث إسقاط الطائرة العسكرية الروسية، علماً بأن الأرجح هو أن الطائرات الروسية هي التي ستعطي اعتباراً للمجال الجوي التركي وستتجنب الاقتراب منه مستقبلاً، بما لا يعطي فرصة لتكرار الحادث، لأن روسيا أدركت الآن بأن أنقرة لن تتردد مستقبلاً في استخدام القوة من أجل الدفاع عن أرضها وجوها وبحرها وحدودها وسيادتها. حادث سقوط الطائرة الروسية «سوخوي 24» يؤكد أن المنطقة تغيرت وتتغير، وعنوان التغيير في هذه المنطقة هو فشل المحافظين الجدد والهروب الأمريكي من المنطقة، وما خلفه ذلك من فراغ، وهو الفراغ الذي دفع روسيا أصلاً للتدخل في سوريا، ودفع تركيا أيضاً لتتصدى للطائرة الروسية.
خلاصة القول، إن ميزان قوى جديد يظهر ويتكرس في منطقة الشرق الأوسط، وهو الميزان الذي تتربع تركيا على أحد كفتيه، فتركيا اليوم تختلف عنها بالأمس القريب.. نحن أمام عملاق سياسي وعسكري واقتصادي، وتجاوزه غير ممكن، ومن يريد حل الأزمة في سوريا، وإرساء الاستقرار في المنطقة فعليه المرور بأنقرة، وهذه معادلة ينبغي على الدول الغربية أيضاً أن تفهمها إذا كنت تريد حقاً التغلب على تنظيم «الدولة الإسلامية» أو التفاهم معه، وهو التنظيم الذي يسيطر اليوم على مساحة تزيد عن مساحة الدولة السورية التي كان يهيمن عليها النظام قبل عام 2011.
(عن صحيفة القدس العربي اللندنية)