الصدمة والذهول هما أبرز ما يميز المشهد اليوم إثر الجريمة النكراء التي طالت قوات النخبة في الأمن
التونسي، وهي قوات
الأمن الرئاسي بعد أن أسقط الهجوم
الإرهابي ما يقارب ثلاثة عشر شهيدا.
الهجوم مريب وخطير في آن واحد، لأنه يكشف تطورا نوعيا في حجم العمليات الإرهابية ومكانها، وفي قائمة المستهدفين بها.
لكن هذا التطور يشمل كذلك السياق الدولي العام من ناحية امتداد وتوسع العمليات الإرهابية في كامل مناطق الصراع والفوضى الكلاسيكية، أي مجال
الثورات العربية أو داخل مناطق أخرى أكثر حساسية مثلما هو الحال في فرنسا عقب الاعتداءات الوحشية الأخيرة.
الأمن الرئاسي أو قوات حماية مؤسسة الرئاسة، والشخصيات الرسمية هي قوات نخبة النخبة في الحزام الأمني التونسي، وتتميز بأعلى درجات الانضباط والجاهزية والقدرة على السيطرة على عمليات التهديد النوعية مقارنة بإمكانيتها التقنية المتواضعة.
وتعتبر هذه العملية أولى العمليات التي تستهدف هذه المؤسسة خاصة وأن أغلب عمليات الإرهاب الإجرامي قد استهدفت قوات الجيش والحرس الوطني بشكل محدد بعد الثورة، وخلال كامل المرحلة الانتقالية إلى اليوم.
وعليه، فإن هذه الجريمة الوحشية والجبانة تمثل منعرجا حاسما قد يؤشر على توجهات تنظيمات الموت والواقفين وراءها خلال المرحلة القادمة من عمر الثورات العربية بناء على الملاحظات الاستقرائية والاستدلالية التالية.
أول الملاحظات تتمثل في سبب استهداف الإرهاب ـ الصناعي منه والطبيعي ـ لأهداف نوعية في تونس خاصة بعد اعتداء متحف باردو وهجوم سوسة الإرهابيين، وسلسلة اعتداءات جبل الشعانبي.
هاته الملاحظة تنبني على أن العمليات في تونس لا تضرب بشكل عشوائي الأماكن العامة مثل، هجومات باريس مثلا؛ حيث كان الهدف إسقاط أكبر عدد ممكن من الضحايا بين المدنيين الفرنسيين الأبرياء.
هجومات تونس استهدفت مراكز حيوية كالنزل والفضاءات المرتبطة بها مثل المتاحف بما هي عصب أساسي للاقتصاد التونسي الهش بطبيعته.
هذا الهدف الأول يسعى إلى تحقيق غايتين؛ تتمثل الأولى في شل واحد من أركان الاقتصاد الوطني، وتتجسد الثانية في إرسال رسائل للخارج الأوروبي باعتبار المستهدفين من هذه الهجمات هم في غالبيتهم من المواطنين الأوروبيين.
ثم استهدفت الهجمات قوات الجيش الوطني في حين كانت هذه المؤسسة واحدة من المؤسسات الأساسية التي ساهمت في نجاح الثورة التونسية عندما رفضت إطلاق النار على المتظاهرين خلال ثورة 17 ديسمبر. قوات الحرس الوطني لم تسلم من هذه الهجمات عندما استهدفتها فرق الموت في عديد من المنعطفات الدامية وسقط فيها عدد من قواتها وأفراد النخبة فيها .
بناء عليه، فإن استهداف القوى الأمنية والاقتصادية إنما يسعى إلى إسقاط شرطين من شروط السيادة الوطنية للدولة وللشعب على السواء، وهما الأمن ورغيف الخبز كشرطيْ وجود أساسيين للعمران البشري في طوره الأدنى وكمدخل أساسي للفوضى والانهيار.
أما الملاحظة الثانية؛ فتتمثل في تطور الصراع السياسي في تونس وحتى في بقية منوالات الربيع العربي من صراع سياسي سلمي إلى صراع مسلح يترجم بلغة القوة عجز النخب العربية عن تأمين المرحلة الانتقالية بعد أن نجحت المغامرات الانقلابية في تصفية الإرث الثوري مثلما حدث في ليبيا ومصر.
أي أن العمليات الإرهابية في جانب كبير منها إنما تمثل امتدادا منطقيا لفشل السياسيّ في ملء فراغات ما بعد انهيار رأس
الاستبداد. و من هنا يكون هدف الفوضى والدمار الذي تخلقه كل عملية بقطع النظر عن الجهة التي تقف وراءها هو تعميق العجز وتوسيع الهوّة بين المطمح الثوري كما عبرت عنه شعارات الربيع من ناحية أولى وبين الواقع الدامي على الأرض من ناحية ثانية بما يحققه ذلك من تنفير من الثورة وكفر بالتغيير وترسيخ لسلوك القابلية للاستبداد.
الملاحظة الثالثة، إنما تتلخص في السعي الحثيث إلى عولمة الظاهرة الإرهابية بما هي تهديد واسع يسمح بالتمكين للغطاء الدولي من أن ينسحب على المشهد العربي، وهو ما حدث في الحالة الفرنسية والروسية.
فقد وجدت هذه القوى الدولية نفسها طرفا من أطراف الصراع وعنصرا من العناصر المستهدفة بنتائجه، وهي بذلك معنية بمواجهته وبالدخول في صراعات مباشرة على جبهات أخرى قد تخفي مطامعها الاستعمارية التوسعية مثلما كان الأمر في الحالة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر وغزو العراق الذي لم يكن معنيا بالظاهرة الإرهابية.
أما الملاحظة الأخيرة؛ فتتمثل في قدرة العمليات الإرهابية على التشريع للخطاب الأمني لا بما يترجمه من رغبة في تحقيق شرط أساسي من شروط الوجود البشري، وإنما بما يحققه من إحياء لدولة البوليس وبعث لمنظومات القمع بسقف ثوري وخنق للحريات بتعلة الأولوية الأمنية وعلوية الأمن على الحرية.
هذا الهدف ظهر جليا في الخطاب الانفعالي الذي تلا العمليات الإرهابية مباشرة لكنه يختلف في جوهره بين ردّ الفعلي الأمني أوروبيا في دول حققت كرامة المواطن وسيادة الدولة وبين ردّ الفعل الأمني عربيا بما هو استنساخ للاستبداد القديم والإحياء لهيكل القمع في دول عجزت عن صون كرامة الإنسان وتحقيق أبسط شروط العدالة الاجتماعية.