كتب هشام ملحم:
الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها باريس والشلل الذي أصاب بروكسيل بصفتها عاصمة بلجيكا وعاصمة الاتحاد الأوروبي أظهرت مدى انكشاف المجتمعات الأوروبية على خطر الإرهاب ومدى انحسار القوة العسكرية للدول الأوروبية التي شهدت 70 سنة من السلام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أوجد انطباعاً خاطئاً عن نهاية الحروب والأخطار الخارجية، وقلل قيمة مركزية السيادة القومية، لتتماشى مع عالم جديد انحسرت فيه أهمية الحدود بين الدول. هذا العالم الأوروبي الذي يجسده الاتحاد الأوروبي، هو الذي زعزعته عودة التاريخ المتمثلة بغزو روسيا وضمها لشبه جزيرة القرم، ونهر اللاجئين الذي اكتسح أوروبا وكاد أن يقوض معظم مسلمات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالحدود المفتوحة واستيعاب اللاجئين والمهاجرين، وأخيراً العنف المطلق الذي يمارسه "داعش" الذي يريد أن يتسبب بحرب نهاية العالم.
الدول الأوروبية التي عاشت أكثر من نصف قرن تحت مظلة الحماية العسكرية الأميركية، باتت، باستثناء فرنسا، تنبذ استخدام القوة العسكرية حتى في حالة الدفاع عن النفس، وحتى عندما تشارك في عمليات عسكرية مشتركة مع أميركا (أفغانستان وليبيا) فإنها تفعل ذلك بشكل محدود. ألمانيا ترفض الاضطلاع بأي دور عسكري قتالي، وليس لدى بريطانيا في الخدمة أي حاملة طائرات للمرة الأولى منذ نحو قرن، ولدى فرنسا حاملة طائرات واحدة. خلال الحرب الجوية في ليبيا، نفدت ذخائر بريطانيا خلال أسابيع قليلة. وحتى بعدما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، واصلت دول مثل ألمانيا وبريطانيا خفض موازناتها العسكرية. وحدها فرنسا لا تزال تقوم بعمليات عسكرية خارج المسرح الأوروبي في الشرق الأوسط أو أفريقيا، ولكن دائماً بدعم لوجيستي أميركي كما حصل خلال الغارات الفرنسية على مواقع "داعش" في سوريا عقب هجمات باريس.
الانكفاء الأوروبي والاستثمار في نمط حياة استهلاكي واعتماد الأوروبيين المتزايد على الخدمات والضمانات التي تقدمها دولهم أعطاهم شعوراً خاطئاً بالأمن، الأمر الذي ساهم بدوره في تخفيف المشاعر الوطنية. واستناداً إلى استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في 2014، قال 29%من الفرنسيين، و27% من البريطانيين و18%من الألمان إنهم مستعدون للقتال من اجل أوطانهم. وتميزت إيطاليا بأن 86% من مواطنيها أكدوا أنهم لن يحاربوا من أجل إيطاليا.
العالم يعيش الآن في حقبة الإرهاب المعولم. التقنيات الإلكترونية الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي وتقاطعها مع الإرهاب الذي يرتدي عباءة دينية تعطي عدداً قليلاً من الإرهابيين القدرة على أن يشلّوا عاصمة مهمة مثل باريس. قادة أميركا وفرنسا وبريطانيا يهددون بتدمير "داعش" ولكن لن يغير أي منهم استراتيجيته المحدودة، خصوصاً أن أوباما القادر على ذلك يفتقر إلى الإرادة.
(عن صحيفة النهار اللبنانية- 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)