لا وقت للعناية بالقيم والمبادئ في مواسم الهلع، فعندما يكون الأمن مهدداً يبدو ما سواه ترفاً. هكذا تتنازل الشعوب عن أقساط متزايدة من حريتها تحت وطأة الخوف، وهل من فرصة أفضل من الصدمات لإخراج مشروعات القوانين الصارمة من الأدراج؟
والخلاصة هي أنّ للإرهاب أثماناً باهظة، مدفوعة من أرواح الناس ودمائهم، ومن حرياتهم وحقوقهم أيضاً، علاوة على مفعولها في تمزيق أواصر المجتمعات وإذكاء التعصّب وإشاعة الكراهية.
لا غنى عن المراجعات الأمنية، ولكن من قال إنها كانت غائبة أساساً؟ ابتدأ العهد الأمني الجديد مع مطلع القرن الجاري. منذ واقعة البرجين الشاهقين يوم الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. ثم توالت الصدمات عبر اعتداءات متلاحقة كالتي شهدتها مدريد ولندن في العقد الماضي؛ فتراكمت مع كل محطة منها المراجعات الأمنية مؤذنة بقوانين وإجراءات غير مسبوقة. استمر المنحى حتى صدمة "شارلي إيبدو" فدخلت فرنسا ومعها أوروبا منعطفاً جديداً، بما استدعى متوالية من المراجعات التي ارتفع معها منسوب المعالجة القانونية والإجرائية لتخالج المجتمع في مساراته دون أن تستثني الحياة المدرسية ذاتها، وهو ما بعث القلق من إرهاصات الرقابة على المجتمع.
تتنامى التهديدات الأمنية في زمن العولمة، وهذا ما يحتج به بعضهم اليوم لتبرير النزعة الأمنية الصارمة، ولكنها نصف الحقيقة في الواقع، أما نصفها الآخر فهو أنّ امتيازات المراقبة والاستشعار تتعاظم هي الأخرى فتمنح أجهزة الأمن قدرات فائقة على انتهاك المجال الشخصي للأفراد والوصول بالمجتمعات إلى حالة من الانكشاف الشامل الذي لم تسلم منه أروقة الحكم ذاتها، كما اتضح مع فضائح التنصت الشهيرة التي كان من ضحاياها زعيمة أوروبا القوية المستشارة ميركل.
ولكن من بوسعه أن يناقش اليوم في حضرة الفواجع؟ فلا صوت يعلو فوق صيحة الهلع التي تعقب التفجير. هكذا يتولى
الإرهاب إخراس المنادين بالتعقل، فما تفعله الاعتداءات المرعبة هو أنها تطلق المزيدات التي ينادي أصحابها بتشديد الحماية والمراقبة، فوق ما طالبوا به من قبل.
هي لحظة داهمة يتنازل فيها حراس الديمقراطية، في البرلمان والصحافة والمجتمع المدني والشخصيات العامة، عن التدقيق في نبرة الخطاب المتشنجة ومشروعات القوانين والإجراءات التنفيذية التي تفرض اللحظة تمريرها على عجل. شيء من هذا تم تجريبه على الجانب الآخر من الأطلسي، مثلاً مع "باتريوت آكت" الذي انجرف المشرعون الأمريكيون وراءه في لحظة الخوف التي أمسك بزمامها جورج بوش الابن وفريقه من المحافظين الجدد. إنه "القانون الوطني"، الذي صدر سريعاً وتذرّع بقيمة "الوطنية" لدوس قيم أخرى في طريقه، وفق ما جاء في شكاوى الحقوقيين الأمريكيين.
ويومها؛ طوّقت أمريكا ذاتها وتحصّنت، دون أن تلحظ عواقب ما تقوم به في الخارج. يستنتج الجميع اليوم أنّ ما جرى في غزوتين متعاقبتين في عمق العالم الإسلامي بعد 11 أيلول/ سبتمبر قد أحرق بلداناً ومزّق مجتمعات وأفشل دولاً وأحرق أجيالاً، وسكب الزيت على نار الإرهاب التي تعاظمت ألسنتها.
لا تملك الأمم ترف التخلي عن المراجعات الشاملة مع أعاصير كالتي عصفت بباريس ليل الجمعة 13 تشرين الثاني/ نوفمبر. فلا غنى عن المراجعة، ولكن ما جدواها إن لم تكن شاملة؟
وأن تأتي المراجعات شاملةً إنما يقتضي من أطرافها ألا يتعاملوا انتقائياً مع مساراتها وملفاتها وأسئلتها. فلا يصح أن يستثني ذلك فحص رؤى استراتيجية متقادمة وسياسات خارجية مثيرة للجدل لم تخضع للنقاش الشعبي ولم تكترث بها المداولات الديمقراطية لافتراض أنها تجري بعيداً عن البلاد. تم إغفال العولمة التي جعلت العالم يتقارب، بما لا يجعل أي رقعة بمنأى عما يجري في القرية الكونية من أزمات بعضها من ارتدادات السياسات الخارجية للأمم.
وفيرة هي الأمثلة. فقد ترك العالم سورية تحترق حتى اضطر شعبها إلى الفرار، فتدفقت أفواج اللاجئين إلى العمق الأوروبي متلازمة مع هواجس ثقافية واجتماعية وأمنية في الشمال.
وتواصل عواصم أوروبا مد البساط الأحمر لرموز الاستبداد الذين ذبحوا شعوبهم في الميادين وسحقوا الديمقراطية تحت الدبابات، حتى عم الشك على ضفاف المتوسط بشأن جدية امتثال أوروبا لشعاراتها الكبرى.
أما معضلات التنمية فظلت على حالها المتفاقمة حتى انهارت "الأهداف الإنمائية للألفية"، ويبدو أنّ الأسرة الأوروبية شاركت من خلال سياسات اقتصادية واجتماعية وخارجية محددة بقسطها في هذا الانهيار وإن لم تشأ ذلك، وهذا ما يعترفون به ضمنياً في الأمم المتحدة.
ويبقى النموذج المزمن حاضراً في مركز المشهد. إذ يتجسد شعب فلسطين مثالاً واضحاً في عيون الأمم للظلم المزمن والقهر المستمر واختلال القيم واضطراب الشعارات المرفوعة. وليس بوسع أوروبا تحديداً أن تتنصل من مسؤولياتها عن منشأ هذه القضية الكبرى ومن ضلوعها المباشر أو غير المباشر في استمرارها، بكل ما تعنيه من أعباء باهظة على شعب بأسره وتبعات جسيمة على منطقة بكاملها وتعقيدات متواصلة في حلبة السياسة الدولية. والحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي أنّ أوروبا لن تنجح في كسب العقول والقلوب في جوارها طالما أنّ نظام الاحتلال في فلسطين يحظى بالحصانة والحظوة والرعاية.
يبدو غريباً أن يملك بعضهم جرأة المطالبة بمراجعة الكتب المقدسة وفحص ما يأتي فيها، ولا يملكون في الوقت ذاته شجاعة المطالبة بمساءلة راسمي السياسات التي أشعلت الحرائق، أو مناقشة ما يقرره السادة الجالسون في المكاتب العلوية.