كتب عبد الله السناوي: في الجو العام قلق لا يمكن إخفاؤه من التداعيات المحتملة لما يشبه الحصار على السياحة
المصرية بعد حادث
الطائرة الروسية فوق سيناء.
للقلق وجهان أحدهما إيجابي والآخر سلبى.
ما هو إيجابي استنفار الإرادة الوطنية بالتداعي الحر للمواجهة والتحدي خشية تصدع الاقتصاد المنهك ودخول البلد في اضطرابات جديدة لا يحتملها.
هذا يمكن تلمسه بسهولة في الكلام العادي للمواطن العادي وعلى شبكات التواصل الاجتماعي الصاخبة ودوائر جماعات المثقفين وما تبقى من أطلال نخب سياسية.
وما هو سلبى أنّ طاقة المقاومة لا تجد خطابا سياسيا يحدد الأزمة وطبيعتها وأطرافها ولا بوصلة ترشد المواقف والسياسات.
في غياب البوصلات قد تتبدد طاقة المقاومة التي يعرضها المصريون.
الكلام الغائم لا يصمد طويلا والرهان على التعبئة الإعلامية بغير قضية وهم مؤكد.
ما الأزمة بالضبط؟
أسوأ تعريف تلخيصها في الآثار الاقتصادية لسقوط الطائرة الروسية.
شبه الحصار السياحي ليس كل الأزمة ولا آثاره تتوقف عند ملفات الاقتصاد.
صلب الأزمة أن الثغرات الداخلية من أصغر القضايا إلى أخطرها لا توحى بالتماسك والثقة.
بمعنى مباشر فإن التوظيف السياسي الزائد عن كل حد مقبول لحادث الطائرة المروع ترجمة صريحة لخلل الأوضاع الداخلية.
الخلل يغرى بالانقضاض والثغرات تساعد على تصفية الحسابات.
قبل أن تحاسب الآخرين من واجبك أن تنظر في المرآة لترى بعينيك الأخطاء التي ارتكبت والثغرات التي اتسعت حتى يمكنك تصحيحها بشجاعة وسدها بغير تردد.
ما بين الثغرات البادية عمد رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون" لإعلان وقف الرحلات السياحية إلى شرم الشيخ قبل اجتماعه مع الرئيس المصري "عبدالفتاح
السيسي" أثناء زيارته اللندنية.
لم يكن يجرؤ في ظروف أخرى على التصرف بهذه "الجلافة الدبلوماسية".
هناك فارق بين الحق الطبيعي لكل دولة في اتخاذ ما تراه من إجراءات لضمان سلامة مواطنيها في الخارج وبين تعمد الإهانات الدبلوماسية والإعلامية لدولة تخوض حربا ضد الإرهاب.
في لحظة فكر الوفد المصري في إنها الزيارة، غير أن الفكرة استبعدت وكان الرد الدبلوماسي خجولا خشية التصعيد.
في الاستبعاد تشجيع على تغول الاستباحة.
إذا لم يخرج أحد ليقول لنا ماذا جرى في لندن فما معنى الكلام الإعلامي عن الأزمة مع بريطانيا إلا أن يكون طرقعات صوتية تتبدد سريعا في الفضاء.
بيقين فإن تعليق الرحلات السياحية كعمل احترازي ومؤقت لحين الاطمئنان على سلامة الإجراءات في مطار "شرم الشيخ" هو عمل سيادي للدول.
غير أن "الجلافة المتعمدة" تثير التساؤلات عن الأهداف الحقيقية.
بافتراض أن الحادث إرهابي فإن أي دولة في العالم معرضة لهجمات من مثل هذا النوع دون أن يستدعى ذلك النيل من استقرارها كأنه تشجيع على الإرهاب.
ما دواعي الاستباحة؟
هناك بون شاسع بين أن تكون الدول الغربية الكبرى قد سعت لمد جسور المصالح الاستراتيجية مع أكبر دولة عربية وبين ارتياحها لنظامها السياسي بعد (30) يونيو.
لدى أول ترنح لن تتردد في الانقضاض وتصفية الحسابات بقسوة.
هذه حقيقة لا سبيل للتشكيك فيها.
عندما لا تصارح شعبك بطبيعة الأزمة وحقيقتها وتعمل على سد الثغرات فإن النتائج قاسية.
بكلمات صريحة فإن مصر المنهكة لا تحتمل إخفاقا جديدا ولا اضطرابا اجتماعيا ولا مرحلة انتقالية ثالثة غير أن السياسات الحالية لا تنهض إلى مستوى ما هو ضروري لحفظ التماسك الداخلي.
بصياغة أخرى لا يمكن استبعاد أي اضطراب ما لم تتعدل جوهريا السياسات الحالية.
تماسك المجتمعات لا تصنعها دعوات الاصطفاف الوطني المجردة من كل ماء حياة.
ماء الحياة هو الأفكار والتصورات والرؤى والبوصلات التي تحدد الأولويات وترسم السياسات قبل المشروعات.
في إبان تحولات "يونيو" اصطفت الأغلبية الساحقة من المصريين خشية الانجراف إلى احتراب أهلي يأخذ من الدولة طبيعتها المدنية ويمكن الإرهاب من مقاديرها.
غير أن البيئة العامة الآن اختلفت فالرهانات الكبرى تراجعت وآبار السياسة جفت وأشباح الماضي أطلت على المشاهد السياسية والاقتصادية والإعلامية.
وذلك قوض الثقة العامة وسحب من رصيد الشرعية واستدعى الاستهانات بالبلد كله.
هنا مكمن الأزمة الحقيقية التي أثارت قلقا شعبيا بالغا.
غياب أي بوصلة جعلت من التوجه إلى المستقبل رحلة في التيه، لا نعرف أين نحن ولا إلى أين نتجه؟
شبه الحصار السياحي قد ينتهى في مدى منظور غير أن ذلك لا يعنى أن احتمالات الانقضاض تقوضت.
الاصطفاف الوطني له مقوماته وأهمها أن تكون هناك خطة عمل وإجراءات ضرورية تسد الفجوة ما بين الأمن والحرية وتفتح المجال العام لكل رأى وفكر واجتهاد دون مصادرة، فالأحرار لا الخائفون هم من يدافعون عن بلدانهم.
إصلاح الجهاز الأمني أولوية لم يعد ممكنا التأخر فيها.
فكل يوم يمر يعمق الأزمة بين الأمن ومواطنيه أثناء حرب ضارية مع الإرهاب والثمن سوف يكون فادحا لدى أول منحنى.
مصالحة الدولة مع شبابها والإفراج عن الموقوفين وفق قانون التظاهر أولوية أخرى لسد الثغرات التي تتسع باطراد وترشح لاحتمالات مواجهات محتملة.
وإصلاح مؤسسة العدالة وفق النصوص الدستورية من شروط استعادة هيبتها التي تراجعت إلى حد لا يمكن إنكاره.
بجملة واحدة انسداد القنوات السياسية من أهم الأسباب التي تدعو إلى الانقضاض دون أن يكون المجتمع محصنا.
وانسداد القنوات الاجتماعية سبب رئيسي تتعدى خطورته أي أسباب أخرى.
إذا لم يستشعر المواطن العادي حقه في "نصيب عادل من الثروة الوطنية"، بحسب النص الدستوري، فإننا أمام أزمة مؤجلة تسحب من دعوة الاصطفاف قوتها الاجتماعية الضاربة.
غياب أي فلسفة اجتماعية أفضى إلى تشريعات انتصرت لـ"رأسمالية مبارك" على حساب الأغلبية الساحقة من المصريين لم تكن تجرؤ لجنة السياسات على عهد نجله "جمال" أن تصدرها.
المصارحة بالحقائق من ضرورات تجاوز الأزمات.
إنكار الأزمة خطيئة والتردد في مواجهتها قاتل.
عندما تثق الشعوب في نفسها فإنها تتحمل واجب المسؤولية، وتربط الأحزمة إذا اقتضى الأمر، تضحى وهى تأمل في مستقبل مختلف.
ليس بطاقة أحد في مصر أن يحل مشاكلها المستعصية بأي مدى منظور فالأولويات ملحة والموارد شحيحة.
ما هو ممكن أن تكون الرؤى واضحة والسياسات معلنة والأولويات مفهومة.
بمعنى أن تكون هناك بوصلة تهدي الخطى وتوسع من التوافقات العامة حتى نتقدم إلى الأمام بثقة ونتجنب في الوقت نفسه أي انقضاضات.
(عن صحيفة الشروق المصرية- 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)