كتب يسري فودة:
ــ 1 ــ
نشبت معركة إعلامية العام الماضي بين مكتب رئيس الوزراء البريطاني سابقا، طوني بلير، وجريدة الغارديان اللندنية. محور المعركة أن الجريدة نشرت موضوعا، في الثاني من يوليو/ تموز 2014، قالت فيه إن «طوني بلير وافق على تقديم النصيحة للرئيس
المصري، عبدالفتاح
السيسي.. في إطار برنامج اقتصادي تموله دولة الإمارات العربية المتحدة يعد بتوفير فرص تجارية ضخمة لكل أطرافه». رد مكتب بلير في اليوم نفسه ببيان جاء فيه: «هذه القصة هراء.. طوني بلير ليس مستشارا رسميا للسيسي.. ولا هو يسعى إلى الحصول من مصر علي أي أموال». هذا الرد، من الناحية القانونية، لا غبار عليه، وهو رد نمطي ومثال جيد لدارسي الحيل اللغوية لمن يسمون Spin Doctors (أساطين الخداع الذهني). ذلك أنك لست في حاجة إلى أن تُسمَى «مستشارا رسميا» كي تقدم المشورة أو النصيحة أو السمسرة، على أساس دوري أو كلما نشأت الحاجة. ولا أنت في حاجة إلى أن تحصل في مقابل ذلك على راتبك أو أجرك أو سمسمرتك ممن تنصحه بشكل مباشر.
ــ 2 ــ
أمس، خرج علينا ذلك الذي يسميه شعبه «بودل» كي يقول على شاشة «سي إن إن» لأول مرة: «أنا آسف» عن دوره القذر في غزو العراق عام 2003، الأمر الذي ساهم ــ وفقا لاعترافه ــ في تهيئة الظروف لانتشار داعش وما تلا ذلك من تداعيات. ورغم اعترافه كذلك بأن ما حدث كان جريمة حرب تُسأل عنها، في رأيه، تقارير استخباراتية خاطئة، فإن الذين عاشوا قصة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول من الداخل (و من أبرزهم ريتشارد كلارك داخل البيت الأبيض، ومايكل شوير داخل سي آي إيه وكولن باول داخل وزارة الخارجية) يعلمون أن القيادة السياسية في واشنطن وقتها استخرجت صبيحة اليوم التالي ملفا كان مجهزا من قبل اسمه: «العراق»، متغاضية عن كل التقارير التي قدمت لها من أجهزتها المحترفة. قاد مجرمو الحرب، دِك تشيني ودونالد رمسفيلد وبول وولفوفيتس، رئيسا غرا هو جورج بوش الصغير من أنفه، وقاد هذا طوني بلير من ذيله، نحو تدمير العراق ونهب خيراته وتمهيد الطريق لما نحن فيه الآن في المنطقة كلها. ولا يتعارض هذا بكل تأكيد مع كامل التحفظات على ديكتاتورية صدام حسين الدموية والمواقف الأنانية ضيقة الأفق للأنظمة العربية.
ــ 3 ــ
هذه الأنظمة العربية التي لا يبدو أنها تتعلم أبدا من التاريخ، ولا تعرف منه سوي كتالوج «أمن الدولة» المتوارث ــ الذي هو في مفهومها «أمن الحاكم» وحسب ــ لا تزال في غرفة النوم باسم شعوبها مع خُداعها وخُداع الشعوب، بلا أدنى قدر من المحاسبة. علي الأقل تأتي على حكام الغرب لحظة من المحاسبة، أمام المحاكم أو أمام الشعوب، إن عاجلا أو آجلا. حدث هذا مع طوني بلير قبيل نهاية عام 2005، وهو لا يزال في السلطة، عندما اصطحب زوجته وأولاده إلى إجازة عائلية في شرم الشيخ. تكرم عليه رئيس مصر آنئذ، السيد محمد حسني السيد مبارك، بطائرة وفيللا، وكأنما يتكرم عليه من أموال «اللي خلفوه». لم نحاسب نحن مبارك على ذلك، لكن الشعب البريطاني، من خلال مجلس العموم، أجبر البودل على رد قيمة «الرشوة» لمصر.
ــ 4 ــ
لم يحاسب أحد الرئيس «المتخلي» أيضا على تلقيه «النصيحة» والإطراء من مجرم الحرب الذي لم يعترف، صديقه «أرِك»، المعروف أيضا باسم إيريل شارون، فمن إذا يمكن أن يحاسب السيسي على أنه يتلقى «النصيحة» من مجرم الحرب المعترف، طوني بلير؟ ما الذي قدمه له هذا حتى الآن من «نصائح» اقتصادية أو استثمارية أو سياسية؟ إلى أين انتهت؟ وإلى أي مدي يمكن أن تكون قد ساهمت في فشل ذريع لآمال مؤتمر اقتصادي غير مسبوق هللنا له واعتبرناه فتح الفتوح؟ ومَن مِن المروجين لأوهام كثيره على استعداد لفهم أن الأمر أبسط كثيرا من ذلك، وأن أولئك في أنظمة الغرب الذين غزونا قبل ذلك ويغزوننا الآن يغزوننا دائما من فوق الجسر نفسه: جسر استموات الحكام العرب في البقاء على مقاعدهم دون محاسبة واستعدادهم للتضحية بأي شيء في مقابل ذلك؟
ــ 5 ــ
لا أحد بين البشر، حاكما أو محكوما، يستلطف هذه الكلمة: «المحاسبة». وهو السبب نفسه الذي من أجله لا يُترك وجودها ولا توضع ضماناتها رهنا لكرم من أحد. لا يوجد في مصر الآن إعلام قادر على فرض الرقابة والمحاسبة، وهو ما يعني ببساطة أنه لا يوجد الآن في مصر إعلام. وبينما تُغل أيدي الصالحين في الأجهزة الرقابية التابعة للدولة، ويفقد كثيرون ثقتهم في فعالية منظومة العدالة، يبقى الأمر معلقا ببرلمان يولد في هذه اللحظات، في عيون كثيرين، ميتا. هذا طريق لا يمكن السير فيه حتى نهايته. من يجعل الأمر المنطقي مستحيلا يجعل الأمر غير المنطقي احتمالا. ومن قبره يقول جون كينيدي: «هؤلاء الذين يجعلون الثورة السلمية استحالة يجعلون الثورة العنيفة حتمية». أكاد أتوسل من أجلنا جميعا، من أجل المستقبل القريب لهذا البلد.. قليلا من المنطق.. قليلا من الحكمة.. قليلا من العدل.
(الشروق المصرية)