تخيل معي لو أن السيد عبدالفتاح "سيسي" رئيس جمهورية الأمر الواقع وقف في أولى جلسات البرلمان
المصري قائلا:
"لقد قررت أن أعلن الوحدة مع إسرائيل، وفي سبيل ذلك ستبدأ جميع أجهزة الدولة المصرية باعتقال الفلسطينيين وكل من يتعاطف معهم من المصريين الإرهابيين، وتغيير المناهج الدراسية المزورة وإثبات حق الدولة العبرية التاريخي في تلك الأرض المقدسة، وستبدأ القوات المسلحة منذ صباح الغد عملية عسكرية واسعة لمهاجمة الإرهاب في غزة، لتحريرها من الاحتلال العربي، وإعادتها لدولة إسرائيل الشقيقة"!
ما الذي سيحدث؟
أكاد أجزم أن المجلس عن بكرة أبيه سيصفق، لن يعترض أكثر من عدة نواب ربما لا يبلغون عدد أصابع اليدين!
نحن نشاهد العمالة في أزهى صورها، إنه نظام تطابقت مصالحه مع مصالح ألد أعدائنا، ولولا دعم هؤلاء الأعداء لسقط هذا النظام منذ شهور طوال.
هذا الشيء ليس برلمانا مصريا، بل هو مجرد تشكيل حكومي مُعيَّن من أجهزة الأمن، وهو امتداد للتشكيل العصابي الذي يحكم مصر بقوة السلاح.
إنه "كنيسيت" هدفه مصالح أعداء الأمة... ولأنه على أرض مصر من الممكن أن نصفه بالمصري... لهذا السبب لا أكثر.
وعدد المصوتين فيه يطابق عدد المهتمين بالكنيست الإسرائيلي في مصر، حوالي 3 إلى 4 في المائة من المسجلين في جداول الناخبين.
وقد استطاع الشعب المصري أن يفهم هذه الحقيقة المرة منذ شهور، فأحجم عن التصويت في استفتاء الدستور، ثم كان الإحجام أكبر في الانتخابات الرئاسية، وها هو الإحجام الأضخم في تاريخ مصر اليوم... في معركة انتخابات "الكنيست" المصري.
من المفارقات المؤسفة أن ترى النخب من سائر الاتجاهات قد أجمعت (إلا من رحم ربي) على سب الشعب المصري، وعلى اتهامه في وعيه، وعلى التقليل من أي إنجاز يقوم به، وإلصاق سائر صفات النقص به!
ويستمر ذلك الشعب العظيم منذ بدأ ثورته في يناير 2011 في إثبات جدارته بالاحترام، وإثبات قدرته على الفهم الفطري للأوضاع السياسية المعقدة، وعلى قدرته على صناعة التغيير السلمي رغم كل المعوقات والمؤامرات.
وبرغم ذلك تستمر النخب في اتهاماتها الفارغة لذلك الشعب، بل يتطور الأمر إلى سب الشعب المصري سبا مقذعا، ووصفه بصفات هي من صفات النخب (مثل الخيانة والرضا بالذل).
ما فعله الشعب المصري في الأسبوع الماضي في داخل وخارجها مصر في تفاعله مع مسرحية انتخابات الكنيسيت يؤكد عظمة هذا الشعب، ويؤكد جدارة جيل الشباب بقيادة هذه الأمة.
يطلق البعض على ما حدث لفظ (مقاطعة)، والحقيقة أن ما حدث شيء أكبر من ذلك بكثير، إنه انفصال تام وانعزال كامل عن كل ما يقوم به النظام.
المقاطعة عمل يقوم به الناس وهم في حالة الوعي، بينما ما حدث أمر حدث بالسجية (باللاوعي)، لقد تحكمت فطرة الناس السليمة فيهم فصعروا خدهم لهؤلاء الحثالة الذين ترشحوا، وعبروا عن احتقارهم لسائر مؤسسات الدولة، من أكبر رأس إلى أصغر ذنب.
سيقول بعض المحللين السطحيين إن ما حدث قد حدث بسبب مقاطعة الإسلاميين للمشهد، ولكن الحقيقة أن هناك أطرافا أخرى لم تكن في المشهد برغم فراغ الساحة من الإسلاميين!
لَمْ نَرَ العصبيات القبلية مثلا!
لَمْ نَرَ غالبية مقاولي الانتخابات والذين يبيعون أصواتهم (كانوا موجودين ولكن أقل من سائر الانتخابات في عصر مبارك).
لَمْ نَرَ ملايين الموظفين الذين تعودوا على التصويت بشتى الحيل والألاعيب (شكرا لمن أصدر قانون الخدمة المدنية)!
لَمْ نَرَ معارف وعوائل وأصدقاء المرشحين (أنا شخصيا أعرف عدة شباب من الحمقى المخدوعين الذين ترشحوا... ولم يصوت لهم أقرب أصدقائهم).
وأهم من كل ذلك... لم نر الكتلة القبطية بشكلها المنظم المعتاد (برغم رغبة الكنيسة في الحشد)!
لقد أصبح "سيسي" وحده في مواجهة أمة غاضبة، ونظامه منقسم على ذاته، والشعب يبحث عن مخرج من هذا الجب الذي ألقته فيه يد العسكر.
لقد دأب إعلام الانقلاب على تصوير نفسه محاطا بحاضنة شعبية كبيرة، تخوف الناس من تغييره بالحرب الأهلية، وكاتب هذه السطور كان يزعم منذ شهور طوال أن هذا النظام ليس معه أحد، وأن من معه الآن لن يتغير رأيه مهما حدث، وأن قدرة هذا النظام على استرجاع حاضنته (أو جزء منها) مستحيلة، وأن مسألة سقوطه ليست إلا مسألة وقت.
سيحاول البعض أن يفلسف ما حدث وأن يصوره بأنه أمر مقصود من النظام، وأن "سيسي" سعيد بالمقاطعة لكي لا يلومه أحد حين يحل هذا "الكنيست" الأضحوكة، ولكن الحقيقة أنه يحتاج مؤسسة لها شرعية لكي يتمكن من استعادة صلاحيات منصب رئيس الجمهورية بتعديلات دستورية يقرها "الطراطير"، وأنه كان يتمنى أن يكتمل هذا "الكنيست" مع بعض الزحام الذي يتيح التقاط بعض الصور لبعض الطوابير، لكي يتباهى بها أمام المجتمع الدولي!
ولو أن النظام يريد هذه النسب المتدنية فعلا... فلماذا زور النسبة ورفعها من 2% إلى 26% تقريبا؟
وسوف يواصل رفع النسبة في الجولة الثانية بحيث تقترب من 35% والأيام بيننا!
هذا نظام مصاب بعقدة الشرعية، فهم مجموعة من قطاع الطرق، استولوا على بلد دون رضا الشعب، ويحاولون بكل طريقة إظهار أنفسهم وكأنهم منتخبون، وما هم إلا قتلة فجرة.
أتمنى أن نفهم أن المتبقي من عمر هذا النظام ليس بالكثير، لذلك هناك واجبان أساسيان على معارضي الانقلاب العسكري في مصر، الأول:
تعديل الخطاب الثوري... لا بد من طمأنة عشرات الملايين من المصريين الذين تركوا موقعهم في تأييد النظام الحالي، ولكنهم لم ينضموا إلى مؤيدي عودة الشرعية (بمعنى عودة مرسي)، ولكنهم يرغبون في تغيير سياسي سلمي، ويرغبون في مسار ديمقراطي ينقذ البلاد، ويحترم آلامهم، واحتياجات معاشهم التي لا يبالي بها اللصوص الذين يحكمون مصر اليوم.
خلاصة هذه الطمأنة... تضييق دائرة الأعداء، وتوسيع دائرة المحايدين، وهذا يمهد الطريق لكي يتحرك الثوار.
الواجب الثاني:
إقناع الشعب بوجود مسار بديل... وبأن الثورة الآن خير من الثورة غدا، وأن التأخر في تغيير الوضع الحالي هو أقصر وأيسر الطرق لهدم الدولة وإشاعة الفوضى.
إن طريق سوريا والعراق... بدايته حاكم عسكري أحمق، ونحن على الطريق، ولا حل أمامنا سوى إيقاف القطار المتجه بأقصى سرعة إلى الهاوية.
في النهاية... كيف ستكون ردود الأفعال على مهزلة انتخابات "الكنيسيت" المصري؟
على المستوى الداخلي... سيزداد الشعب سخطا على سخط، والنار تحت الرماد، في انتظار هبة ريح تحرق الطغاة، وتذكروا انتخابات عام 2010.
على المستوى الحكومي... سيستمر النظام في غيه، ولن يوقفه شيء، ومهما حدث سيواصل "سيسي" قمعه بلا هوادة.
على المستوى الإقليمي... لا يعبأ أحد بنتائج تلك الانتخابات، فجميع الدول في محيطنا تعلم حقيقة العصابة التي تحكم، ومن يدعم تلك العصابة سيستمر في دعمه، ومن يعارض وجود هؤلاء في الحكم سيستمر في مقاطعته الصامتة، ومن تبين له مخاطر وجود هؤلاء في الحكم مع الوقت... سيصل قريبا إلى قرار بإيقاف تدفق "الرز"!
على المستوى الدولي... سيستمر الدعم الإسرائيلي، وسيستمر الابتزاز الدولي لهذا النظام الذي تتضح أدلة عمالته كل يوم.
ثمن الحرية غال... ثمنها دم... وقد دفعت مصر دما كثيرا لتحصل على حريتها، ولا ينبغي أن نتراجع الآن، بعد أن أصبح بيننا وبين النصر متر... أو شبر!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين...
* عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: arahman@arahman.net