من اختار لجنة الخمسين، التي أعدت له دستوره، هو من سيختار أعضاء برلمانه فردا فردا، وما الانتخابات إلا لاستكمال الشكل، بما يتناسب مع وصفه لما يجري بـ"العرس الديمقراطي". وقد وصف من وضعوا هذا الدستور بأنهم حسنوا النوايا، قاصدا المعنى السلبي لهذا الوصف، فهو يقصد أنهم من السذج المختومين على أقفيتهم!
إنه عبد الفتاح
السيسي، الذي ظل مترددا في إجراء
الانتخابات البرلمانية، وعطلها كثيرا، وعندما قرر إجراءها كان مدفوعا بمطالب خارجية، فهو لا يستطيع أن يستدين من الخارج ومن البنك الدولي وغيره، إلا في وجود "برلمان"، لا تمانع هذه المنظمات الدولية المشاركة في المؤامرة على الثورة
المصرية، في أن يأتي عبر الاختيار الحر المباشر، لقائد الانقلاب العسكري في مصر، فهي مشغولة مثله باستكمال الشكل!
لم يكن عبد الفتاح السيسي يريد برلمانا من أصله، حتى وإن كان أعضاؤه من اختياره، فأجل الانتخابات عن الموعد المحدد لها في دستوره، وهي كما النص الدستوري تبدأ إجراءاتها خلال ستة أشهر من نشر نتيجة الاستفتاء على الدستور في الجريدة الرسمية، أي من يوم 18 يوليو من العام قبل الماضي، وعندما قبل بإجرائها على مضض، لم ينشغل بأن بالبرلمان سينعقد بالمخالفة لنص آخر في الدستور هو الذي قال بأن الانعقاد يكون في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر. ومعلوم أنه سيجري انتخاب رئيس المجلس وانتخاب هيئته وفق لائحة مخالفة لما نص عليه الدستور، الذي نص على أن المجلس هو من يضعها، لكن الواقع يقول إن من وضع اللائحة هي السلطة التنفيذية ممثلة في وزير شؤون البرلمان!
السيسي الخائف من خياله، لم يشأ أن يترك الأمور للصدفة، فكانت الانتخابات وفق قواعد حددها هو مبكرا، فهو من قرر القانون الذي ستجرى على أساسه، وعبر ترزية القوانين الذين صنعهم على عينه، ولم يهتم باستشارة الأحزاب السياسية، والخبراء، وكان أداء رجاله هو السخرية من الأحزاب، التي لا تعبر عن الشارع، ولا وجود لها فيها، مع أن أحزاب الأقلية هذه هي التي تم استخدامها غطاء لانقلابه العسكري.. الآن صاروا يسخرون منها!
وقد راعى السيسي في القواعد التي وضعها وجود ثغرات تمكنه من حل البرلمان، لمواجهة "الإزعاج المحتمل"، ثم اختار للمنافسة فيها من يتسابقون في كسب وده، فتعلن قائمة "في حب مصر"، أنها ستكون الظهير السياسي للرئيس، فتفاجأ بأن القوائم الأخرى قد سبقها لهذا، وكل المرشحين، من سيحالفهم الحظ منهم ومن لن يحالفهم، متفقون على ضرورة تعديل الدستور بما يمنح عبد الفتاح السيسي المزيد من الصلاحيات لتعود مصر دولة رئاسية فرعونية، باعتبار أن الرئيس هو الأكثر وطنية، والأكثر دراية، والأكثر علما، والأكثر انحيازا لمصالح الوطن، منهم هم. وهو نوع من الإيثار لم تعرفه البشرية في أي مرحلة من مراحلها.
السيسي الذي أعلن بفخر أنه ليس سياسيا - مع أنه يحتل أعلى منصب سياسي في البلاد – راعى إبعاد السياسة عن المشهد، فلا يوجد مرشح معارض واحد يخوض الانتخابات، والموضوع السياسي الوحيد، بين الدائرة الأضيق لعدد من المرشحين، أن هناك من يؤمن بثورتي 25 يناير و 30 يونيو، وهناك من يرى أن ثورة يناير مؤامرة، وأن يونيو بقيادة السيسي أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح!
وقد صرنا أمام انتخابات باهتة، إن صح أن نطلق عليها انتخابات، حيث يلتقي التلفزيون المصري الرسمي، وليس قناة الجزيرة بمواطنين في الشارع، فنكتشف عدم اهتمام المواطن البسيط بها، ويكشف التقرير التلفزيوني أن الناخبين لا يعرفون أيا من المرشحين في دوائرهم على مستوى القوائم، وعلى مستوى المقاعد الفردية!
لقد أراده السيسي برلمانا منزوع السياسة، وحتى من لهم علاقة بالسياسة، ومن ظهرت انتهازيتهم السياسية بانقلابهم على ثورة يناير، وتأييد الثورة المضادة، تم لفظهم خارج الملعب، وهم من كانوا يعلنون استعدادهم أن يكونوا خدما في البلاط، لكن بلاط السيسي لم يتسع لهم، وهم الذين تصرفوا من قبل على أنهم أصحاب ثورة يناير!
لقد خرجت قائمة "عبد الجليل مصطفى"، من المنافسة، ومعه أولئك الذين مثلوا غطاء ثورياً للثورة المضادة، من جمال زهران، إلى نور الهدي زكي، إلى عمار على حسن.. ربما ينتظرون الآن أن يمن عليهم السيسي بالتعيين.
القوى السياسية الفاشلة، التي شاركت في الانقلاب على الثورة، تلطم الخدود، وتشق الجيوب، وتدعو بدعاء الجاهلية، لأن الحزب الوطني سيعود لتصدر المشهد بهذه الانتخابات، ولا يمدون الحبل على استقامته، فيعترفوا بأنهم ساهموا في ذلك، بعد أن مكنوا كل زناة الليل من الثورة، وعندما سمعوا صراخها طلبوا منها أن تصمت صونا للعرض. والوصف اللائق في حقهم – والحال كذلك – هو وصف "مظفر النواب" في رائعته "القدس عروس عروبتكم"!
قرأت لإحداهن "ولولالة"، ولما علق عليها معلق بأنهم السبب في هذه النتيجة ردت عليه، بأنها لا تزال مؤيدة للسيسي!.. وكأنه منبت الصلة بكل ما يحدث الآن، لكن أذل الحرص أعناقهم!
لقد كان يظنون أن السيسي الذي جاء من خارج السياسة سيكون بحاجة إليهم باعتبار أنهم السياسيون الوحيدون في البلد، وأنه سيعزل الإخوان ويمكنهم هم من سلطة لم تمكنهم منها الجماهير عبر صناديق الانتخاب، وعندما تبين أنه يريدها لنفسه وقضى منها وطرا، ظنوا أنهم وحدهم المؤهلون لأن يكونوا رجال المرحلة، فليس معقولاً أن يستعين بالحزب الوطني، فلما تبين أن انقلابه هو لوصل ما انقطع بثورة يناير، التي صارت عند العسكر "مؤامرة" على الحكم الوطني الذي كان يمثله مبارك، لم يفقدوا الأمل، في عضوية بالبرلمان بالتعيين، أو عضوية في مجلس آخر، ولو مجلس حقوق الإنسان، فإن لم يكن فتكفى دعوة لحضور لقاءات الرئيس!
فات هؤلاء، أن الدرس انتهى، وأن المولد انفض، وأن الدولة التي يؤسسها السيسي، لن تسمح بأي وجود لأمثالهم ممن شاركوا في المؤامرة على الحكم الوطني لصاحب الضربة الجوية، الذي اختار السيسي في دولته، وأن القضية التي تضم 250 متهما من الذين شاركوا في الثورة ستفتح، بعد تشكيل البرلمان، وكل من هتف يوما ولو في منامه بسقوط حكم العسكر سيدفع الثمن، ولو أظهر الولاء للسيسي قبل الآكل وبعده!
وليس هذا موضوعنا، فما يعنينا هو مشهد ما يسمي بالانتخابات البرلمانية، التي احتاط لها السيسي، بأن اختار رئيس البرلمان قبل انعقاده، واختار الوكيلين، كما اختار رؤساء اللجان، وهو كلام لم يردده أنصار الشرعية عبر قناة "الجزيرة"، ولكن قاله أحد الصحفيين المؤيدين للسيسي، في قناة "صدى البلد"، المملوكة لرجل الأعمال محمد أبو العنيين، أحد قيادات الحزب الوطني في عهد مبارك!
فاللعب صار على المكشوف، والذين يستنكرون هذه الأوضاع الآن، يعلمون أن السيسي بتأسيس دولته بهذا الشكل يعنى أنهم ليسوا ضمن اختياراته، وضاعت كل أحلامهم في الصعود الاجتماعي بقربهم من الحكم الجديد، بعد أن كانوا يظنون من قبل أنهم صاروا من أهل الحكم.
عبد الفتاح السيسي المشغول باستكمال الشكل، يزعجه العزوف الجماهيري، في الاستحقاقات الخاصة بخارطة المستقبل التي وضعها، والذي يعد كاشفا عن سقوط شرعيته ولو في ما يرتبط بالشكل، لذا فقد خلق هو وأذرعه الإعلامية عدوا لمحاربته وحتى يهب الناس لنصرة الوطن بعدم تمكينه!.
البداية كانت باستخدام فزاعة الإخوان المرشحين الذين تسلسلوا للقوائم الانتخابية، ولما وجدوا أن هذه طريقة لن تجدي كانت فزاعة "حزب النور" المؤيد لعبد الفتاح السيسي والذي يمثل جزءا من ديكور الانقلاب العسكري. ولدي معلومات بأن الهجوم الإعلامي على حزب النور هو بتوجيه رئاسي!
فاتهم أن يؤذنوا في مالطا، فمصر اليائسة الآن لا ترى إنجازا حققه السيسي يدفعهم لان يهبوا خوفا من سقوطه، فقد فشل في البر والبحر، ولن يهبوا دفاعا عن هذا الفشل!
ومصر اليائسة صارت زاهدة في العمل العام بسبب حالة الإحباط من هذا الفشل وبعدم إحساس الناس باللاجدوى من أي شيء، فلم يتجاوز من حضروا انتخابات نقابة الأطباء في الأسبوع الماضي (6) في المائة من أعضاء الجمعية العمومية للنقابة، كما أن انتخابات أعضاء هيئة التدريس حضرها (1) في المائة فقط. وهو عزوف سينسحب بالضرورة على انتخابات برلمان الانقلاب!
إنه اليأس المفيد، فكما قيل إن اليأس حر والرجاء عبد، فمصر اليائسة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في عهد مبارك هي التي دفعها يأسها للثورة!
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة!