في أثناء حرب العدوان التي شنها
الكيان الصهيوني ضد المقاومة الإسلامية بقيادة
حزب الله في
لبنان في تموز/ يوليو 2006، أطلقت كونداليزا رايس وهي تزور لبنان، بهدف وضع ثقل الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب العدوان الصهيوني من أجل مساعدته لتحقيق هدفه في القضاء على المقاومة وحزب الله، شعارا اشتهر تحت موضوعة "الفوضى الخلاقة".
وكانت تقصد أن العدوان الوحشي الذي تعرّض له لبنان، وما ولدّه من فوضى ستكون تلك الفوضى خلاقة حين يحقق هدفه آنف الذكر.
ولكن الذي حدث كان إنزال الهزيمة بجيش الكيان الصهيوني وخروج المقاومة منتصرة، ثابتة الأركان أكثر، في المعادلة اللبنانية، والمعادلة العربية، والإسلامية، والعالمية. لذلك ابتلعت كونداليزا رايس نظرية "الفوضى الخلاقة" ولم تتجرّأ على ذكرها ثانية مرة أخرى.
وقد تكرّس هذا الفشل النظري بدخول
الاحتلال الأمريكي للعراق، كما في أفغانستان، بمسار هزيمة قاسية أمام المقاومتين اللتين اندلعتا ضده، فضلا عن فشله الذريع في العملية السياسية في العراق حيث لم يستطع أن يسيطر على نتائجها التي جاءت في غير مصلحته في صراعه مع إيران أو في تثبيت الاحتلال. فها هنا في العراق وفي أفغانستان كانت الفوضى في الحالتين تمهيدا لاندحار الاحتلال وهزيمته. الأمر الذي جعل من نظرية الفوضى الخلاقة أضحوكة ومهزلة.
على أن اندلاع الأزمة المالية الكبرى التي ضربت الاقتصاد الأمريكي والبورصات العالمية في 2008 فاقمت الهزائم السياسية والعسكرية التي منيت بها إدارة جورج دبليو بوش، كما إلى تدهور السيطرة الأمريكية العالمية ممتدة، أو موصولة بتدهور سيطرتها على ما أسمته زوراً "منطقة الشرق الوسط"، حيث فشلت في تحقيق مشروع "بناء شرق أوسط جديد".
ثم جاءت الثورتان التونسية والمصرية لتسقطا تظامين مثّلا ركنين أساسيين للنفوذ الأمريكي – الغربي، والتواطؤ مع الكيان الصهيوني في حربيه ضد لبنان 2006 وضدّ قطاع غزة 2008 /2009.
فكان العام 2011 تتويجا للخلل في ميزان القوى العالمي والإقليمي والعربي في غير مصلحة أمريكا والكيان الصهيوني، الذي حدث ما بين 2001-2009 بفضل محور المقاومة والممانعة والمعارضات الشعبية العربية.
أما التداعيات التي حدثت على مستوى عدد هام من الدول العربية خلال الخمس سنوات الماضية من كانون الثاني/ يناير 2011 إلى اليوم أوجدت حالة من الفوضى العامة العرمة والخطرة. ومن ثم نشأت أوضاع بموازين قوى وتوّلدت ظواهر غير معهودة ومتعدّدة الأوجه.
من هنا أخذت تبرز ظاهرة القراءات المختلفة والمتعددّة في تحديد أو تحليل الأوضاع الراهنة. وهذه القراءات في أغلبها ابتعدت عن أن تكون مطابقة أو شبه مطابقة لحالة الأوضاع الراهنة ووقائعها. ويكفي دليلاً على ذلك عمق الهوة وبُعد الشقة التي تفصل بين قراءة وأخرى. وذلك ليس في ما يتعلق بالموقف والانحياز وإنما في ما يتعلق بتقويم موازين القوى والظواهر الجديدة وفهم استراتيجيات الدول وسياساتها.
وهذا الخلل يرجع في أساسه أن الأوضاع الراهنة ليس لها مثيل من جهة، ما مرّ على البلاد العربية، والمنطقة الإسلامية من حولها، من أوضاع خلال المائة سنة الماضية وعلى التحديد منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى 2010. حقا لم يعهد لها من مثيل.
فالنظام العالمي والنظام الذي ساد البلاد العربية وتركيا وإيران (فضلا عن أقاليم العالم الأخرى)، بعد الحرب العالمية الأولى، ثم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ما بعد انتهاء الحرب الباردة في العقدين 1991-2010، قد تغير تغيرا نوعيا لا سيما من ناحية السيطرة الغربية عليه، بما فيه مرحلة الحرب الباردة وما بعدها.
ليس ثمة نظام عالمي الآن، إذ هنالك تعدد أقطاب لا ينتظمها نظام تعدد قطبية (بعد)، ولا نظام تعدد محاور وأحلاف كما كان الحال ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى 2010، ولا اعتراف بوحدانية السيطرة الأمريكية كما كان في العقدين اللذين تليا انتهاء الحرب الباردة.
وكذلك النظام العربي- التركي – الإيراني الذي ساد حتى 2010 لم يعد قائما خلال الخمس الماضية، ولا سيما من جهة السيطرة الغربية عليه التي استمرت منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عليه. وذلك بخطوطها العريضة والتفصيلية. أما عندما كانت تحدث اختراقات كبيرة وهامّة مثل الاختراق الذي أحدثته الحركة الناصرية، أو المقاومة الفلسطينية، أو الثورة الإسلامية، فقد كانت السيطرة الغربية، ولا سيما الأمريكية، قادرة على الضرب أو الحصار أو الاحتواء.
لقد تزعزعت هذه السيطرة، وكان من آخر علائم ذلك فك الحصار الاقتصادي عن إيران بعد الاتفاق النووي. ولهذا، ولأول مرة منذ تسعين عاماً أصبح العامل المحلي والعربي والتركي والإيراني هو المؤثر الأول في تقرير مسار الأحداث وانتقل تأثير العامل الأمريكي – الأوروبي إلى الدرجة الثالثة والرابعة في تقرير مصير ما اندلع ويندلع من صراعات في المنطقة.
فجيش الكيان الصهيوني لم يعد قادرا على الحسم العسكري كما فعل في 1948، و1956، و1967، ولا حتى في حرب تشرين 1973، أو 1982 في لبنان. بل أصبح حتى جنوبي لبنان وقطاع غزة مستعصيَيْن عليه. وقد تلقى فيهما هزائم عسكرية.
ولم تعد أمريكا قادرة على أن تفعل في إيران ما فعلته في ضرب مصدّق أو حرب 1980-1988، أو الحصار السياسي والمالي والاقتصادي، ولا وضعها تحت التهديد العسكري المستمر. ولم تعد قادرة على خوض حروب جديدة كما فعلت في كوريا، أو فييتنام، أو العراق أو أفغانستان. بل لم تعد مجتمعات الغرب قادرة على احتمال استقبال جثامين قتلى من حروب الغزو والاستعمار والهيمنة الإمبريالية (وهذه نقطة ضعف هائلة الخطورة على مستقبل الهيمنة).
بل لم تستطع أمريكا أو فرنسا أن تفعلا شيئا والثورات الشعبية تطيح بنظام حسني مبارك ونظام زين العابدين بن علي. بل لم يستطع الناتو أن ينزل على الأرض ليحتل ليبيا لا قبل سقوط نظام القذافي ولا بعده. بل سرعان ما ترك ليبيا لمصيرها المضطرب والملتهب.
فموازين القوى المحلية والإقليمية التي أخذت تتحكم في الأوضاع لم تعد تحت سيطرة الغرب، ولا الدول الكبرى، كما أنها ليست تحت سيطرة أي من القوى الإقليمية والعربية لكي يعاد بناء نظام عربي – إسلامي جديد من خلال القوى المحلية والإقليمية بالرغم من أنها أصبحت هذه القوى ذات التأثير الأول أو الأكبر في مسار الأحداث، ولا سيما في بقاء حالة الفوضى واللاتوازن التي تسود معادلة موازين القوى والصراعات الدائرة.
إذا لم يكن بمقدور قوّة بعينها أو "محور" بعينه في المنطقة أن يفرض نظامه ويُخرِجَ الأوضاع من الفوضى، فإن الحل الممكن هو بتوصّل كل من إيران وتركيا ومصر والسعودية إلى تفاهم حول النظام الجديد وبدعم سوري – جزائري – مغربي – خليجي – وعربي عام. ولكن أيضا مع مصالحات شعبية داخلية تعطي الجماهير قدرا أكبر من الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة الوطنية والحقوق المدنية العامة.
ملحوظة: كتبت هذه المقالة قبل التدخل الروسي الأخير في سورية مما أدخل إلى المعادلة أعلاه، عاملا دوليا جديدا يحتاج إلى بعض الوقت لصوْغ تقدير موقف جديد على ضوئه، وما يحمل من تداعيات.