يملك كل حدث من الأحداث الكبرى الجارية في المجال العربي، والمنتظمة في ما يمكن تسميته بالحركة التاريخية الكبرى الراهنة، طاقة هائلة للانفتاح على عدد لا يكاد ينتهي من الموضوعات الكبرى المتعلقة بسيرورة هذه الأمة بمشكلاتها وأسئلتها.
وبالرغم من أن الأحداث الكبرى لطالما ظللت هذا المجال، على الأقل منذ الفاتحة الاستعمارية مع نهاية
الحرب العالمية الأولى وانهيار
الدولة العثمانية، مرروا بالحروب والانقلابات والانتفاضات، إلا أن هذه الحركة تأخذ طابعا مختلفا من جهة التزامن والاستمرارية والسعة والعمق ودور الجماهير والظواهر المفاجئة والتداخلات الإقليمية والدولية شديدة الكثافة، وهو ما يجعلها احتمالا لنهاية مئة عام ماضية وبداية لمئة أخرى جديدة.
وبالنظر فقط إلى الحالة السورية، والتي جاءت متأخرة عما سبقها من الأحداث التي اندلعت في سياق ما سمي بالربيع العربي، وظلت مستعصية في حين توهم الكثيرون بأن العُقَد قد حلت في بلاد الثورات الأخرى؛ يمكن ملاحظة الكثافة
سوريا وإقليميا ودوليا، والتحولات الدائمة ذات الطابع المفاجئ، مع مركزية موقع الكيان الصهيوني والدول الوظيفية التي تخدمه في الحسابات الدولية من مجريات الثورة السورية ومآلاتها، الأمر الذي يلقي ظلالا غليظة من انعدام اليقين، في حين يمكن اعتبار تلك الكثافة المحتشدة في سوريا، طاقة متمركزة قادرة على بعثرة المشهد وإعادة تشكيله باستمرار.
ومصريا، لا يمكن القول بأن الأمر قد استقر لقيادة الانقلاب، بعد بضعة أسابيع على مذبحة رابعة العدوية، كما كان يتوهم ضابط الانقلاب بمرؤوسيه المحليين ورؤسائه الإقليميين والدوليين، فعوامل النخر أكثر من أن تحصى، ولا يزال النظام متماسكا بفعل القوة الباطشة والرعاية الإقليمية والدولية في لحظة إقليمية ودولية عالية التشابك وكثيفة الأحداث وشديدة السيولة، ولكن أبرز ما تتميز به الحالة
المصرية هو التحكم المباشر والدقيق من طرف العدو الصهيوني، وعلى نحو غير مسبوق، وبما يحيل إلى التفسيرات الإسلامية للنص القرآني عن علو "بني إسرائيل" في الأرض، فدون احتمال الإملاء الصهيوني المباشر على عبد الفتاح السيسي ومن موقع الرئيس لمرؤوسه لا يمكن الإمساك بتحليل مستقيم لممارسات هذا المخلوق تجاه القضية الفلسطينية عمومًا وقطاع غزة بمقاومته خصوصًا، والتي كان آخرها إغراق الحدود الفاصلة بين سيناء وقطاع غزة بمياه البحر بعدما قام بتدمير مدينة رفح المصرية وتشريد أهلها.
وإذن يمكن الحديث عن عدد كبير من العوامل الظاهرة والباطنة المؤثرة في مجريات الأحداث والمتولدة بشكل يومي بالإضافة إلى عدد كبير من الفاعلين الذين يجمعهم نمط من الفوضى مرده إلى التحولات السريعة وانعدام اليقين والغموض الإستراتيجي، وهذا كله بدوره يجعل من عملية محاولة استقراء المستقبل المبني على هذه اللحظة عملية صعبة جدا لاستحالة الإحاطة بكل الكليات والجزئيات التي توجه حركة التاريخ، وهنا يمكن لنا أن نتذكر بأن انبجاسة الثورات العربية بما اتسمت به لاحقًا من تتابع وطبائع ونتائج كانت مباغتة وفتحت بابا واسعا للسؤال حول عجز المثقف عن توقعها.
لم تكن الثورات العربية الحدث المباغت الأول في التاريخ، فالتاريخ مليء بالأحداث المباغتة التي عجز الإنسان عن توقعها رغم دوره في صناعتها، والسبب في ذلك أن حركة التاريخ تصنعها عوامل وتراكمات أضخم من أن يحيط بها الإنسان أو أن يضعها في سياق ناظم يقيني، وهنا يمكن استعارة المثل العربي عن "القشة التي قصمت ظهر البعير"، أو اسعارة مقولة نظرية الفوضى الفيزيائية عن "أثر جناح الفراشة"، فالأحداث الكبرى التي بدت ساذجة في أسبابها المباشرة كانت في الحقيقة انفجارا لركام غفل الإنسان وعجز في الآن نفسه عن رصد تعاظمه وتعالقاته داخل التاريخ فضلاً عن عجزه الأكيد في الربط بين كل عناصره الكبيرة والدقيقة.
لكن إدراك فرادة لحظات تاريخية بعينها ممكن، وبالتالي وعلى قدر الدقة في تحديد سمات فرادة هذه اللحظة تكون الدقة في توقع الجنين الذي تحمله في أحشائها للمستقبل غير البعيد، وهذه اللحظة التاريخية التي نعيشها فريدة، ويصعب نفي فرادتها، وهي من هذه الجهة قابلة لأن تكون خاتمة لمرحلة وفاتحة لأخرى، ومن جهة أخرى فإنها تتمتع بكثافة عالية جدا تحتم انفجارات أو تحولات مباغتة، وما أكثر ما أخذ الله، جل وعلا، الأمم والقرون بغتة، واستدرج المكذبين بآياته من حيث لا يعلمون.