مما لم يعد يحتمل النقاش أو الجدل، وبكل موضوعية وحيدة وتجرد، وبغض النظر عن مدى شرعيته المطعون فيها، فإن الجنرال السيسي، قد أثبت أنه من أكثر الحكام الذين عرفتهم مصر في تاريخها إهداراً لحقوق الإنسان وتجسيدا لمفهوم الدكتاتور بحذافيره. فهو لم يترك كبيرة أو صغيرة من الفظائع التي يمكن للدكتاتور الملتزم بوصفه الوظيفي أن يفعلها إلا وأقدم عليها.
والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى وتعد، تبدو فجة صافعة لكل من به بقية من نظر، ولا حاجة لإزعاج القارئ بإحصاء بعضها، وهي على كل حال قد تعصى على الإحصاء لكثرتها. لكن المشكلة فيما أزعم لا تكمن وحسب في السيسي، فهو مثل أي إنسان انتهازي وجد الفرصة متاحة أمامه لكي يرتقي إلى ما يشبه الإله، فلم يتردد في انتهازها، وإنما تكمن أيضا، وهذا هو الأهم، في الذين سمحوا له بأن يتسلق على أكتافهم ليطال تلك المكانة العلية الفرعونية السمات!
في تلك الأيام المشؤومة التي سبقت وواكبت وأعقبت مهزلة 30 يونيو، كان من الممكن للمرء، ونقول هذا من باب الجدل والتغاضي عن الحقائق، أن يجد عذرا أو تبريرا لأولئك الذين ناصروا السيسي، فقد كانت الأمور مشوشة والوضع ملتبسا إلى حد ما، بحيث تراءى لفئة من الناس أن أغلبية الشارع المصري لا تريد حكم الإخوان وتود إنهاءه. أما بعد أن تكشفت الحقائق وذاب الثلج وبان ما تحته، وتبين عبر أكثر من عامين من الوقائع الصادمة أنما جرى كان برمته يعبر عن انقلاب عسكري محكم كامل الأوصاف، كان يطبخ على نار هادئة منذ اللحظات الأولى لتولي الرئيس مرسي السلطة، بالتعاون والتنسيق مع عدد من أجهزة الاستخبارات الدولية والعربية والصهيونية، فلم يعد هناك أي عذر يمكن التماسه لمن قرروا الانحياز الكلي والدائم إلى معسكر السيسي، بحيث يمكن أن نسقط على هؤلاء الكثير من الصفات الذميمة التي يمكن إسقاطها على ربهم وولي نعمتهم الجديد، على قاعدة: الشعوب على دين ملوكها والعكس!
أكثر الفئات التي أثارت حزني واندهاشي لوقوفها المتحمس إلى جانب السيسي هي فئة النساء. فقد ذكرني موقف المصريات اللواتي اندفعن للرقص في الشوارع تأييدا له بأحاديث نبوية كنت أتعجب منها، تفيد بأن أكثر أهل النار هم من النساء، وأن أكثر أتباع المسيح الدجال هم من النساء أيضا، لأدرك اليوم بعض ما كانت تلك الأحاديث ترمي إليه! فالنساء فيما يبدو، وبوجه عام بعيد عن التعميم والإطلاق، تتحكم بهن مشاعرهن وتستبد بهن الأهواء أكثر بكثير من الرجال، بل ويصل الأمر بهن إلى أن يعشقن من يبرع في دغدغة أحاسيسهن بكلمات معسولة، معطيات إجازة مفتوحة لعقولهن حتى لا يقيّمن تلك الكلمات بميزان الحكمة والمنطق.
وللحق، فقد برع السيسي، الذي اشتهر بلقب الممثل العاطفي، في العزف على أوتار قلوب الغافلات، بصوته الناعس الذي يريد أن ينافس صوت الإعلامي أسامة منير صاحب برامج القلوب الملتاعة الولهانة!
وقد يكون بالإمكان تقسيم من يتشبثن بدعم السيسي حتى الآن إلى فئات أربع بوجه عام، دون إنكار وجود بعض الاستثناءات:
ـ فئة الراقصات والممثلات والمغنيات ومن يسمين عموما بالفنانات: المنتميات إلى هذه الفئة كن دائماً وأبداً يتحلقن حول الأنظمة الفاسدة والمنحلة أخلاقيا، التي يمكن أن تضمن لهن الحفاوة والتكريم. فإذا ثبت بأن أم كلثوم، وهي التي توصف بأنها القمة في الرقي الفني والشخصي، كانت تغني للملك فاروق وتقبّل يده وتدعو له بالبقاء والرفعة والسؤدد، وهو يُنعم عليها بالأوسمة والعطاء، ثم انتقلت بقدرة قادر لتصبح الفنانة الأولى لثورة الضباط التي قامت ضده، فما ظنكم بالمتطفلات على الفن من بنات اليوم اللواتي يتنقلن من رجل أعمال إلى آخر تحت مظلة زواجات عرفية مشبوهة! أعضاء هذه الفئة وجدن الثروة والشهرة والنفوذ بدخولهن إلى عالم الفن المشتبك بعلاقة حميمة مع عالم السياسة ورجالاته الفاسدين الذين تحركهم شهواتهم.
ولو لاحظتم، فإن أكثرهن صيتا وثراء ومكانة هن اللواتي يلعبن الأدوار الأكثر جرأة وسخونة وخدشا للحياء، لذلك؛ كان من الطبيعي والمتوقع جدا أن تقف المنتميات إلى هذه الفئة وقفة سلبية مناهضة لنظام حكم الإخوان، لما فيه من مسحة دينية، لأنه كان سيشكل على المدى الطويل، في اعتقادهن على الأقل، خطرا جسيما يهدد المكانات والامتيازات التي يتنعمن بها.
وفي المقابل، لم يكنّ ليجدن شخصا أفضل من السيسي كي يمنحنه الحب والولاء، باعتباره ينادي بذات الإسلام "الوسطي الجميل المعتدل" الذي ينادين به، الذي يبارك الراقصة التي تستعد لوصلتها بترداد بعض الآيات القرآنية والأدعية طلبا للنجاح والتوفيق!
ـ فئة المثقفات العلمانيات: صاحبات هذه الفئة هن ممن يعانين من استلاب فكري وانسلاخ ثقافي وتبعية حضارية عمياء للغرب، جعلتهن يتوهمن أن صعود الغرب قد ارتهن بعملية فصل الدين عن الدولة، وأن ارتقاء الشرق لن يتم إلا بتنفيذ العملية نفسها. ربات هذه الفئة يعشن أو يردن أن يعشن حياتهن والنموذج الغربي هو القبلة التي يوجهن إليها أنظارهن.
فهن يرتدين ملابس غربية الطراز، ويطعّمن كلامهن بكلمات غربية بمناسبة ودون مناسبة، ولا يجدن غضاضة في تعاطي المسكرات، ولا يترددن كثيرا في تقليد النساء الغربيات في علاقاتهن المتحررة. وعليه؛ ما كان لهن إلا أن يتخذن موقف العداء السافر من حكم جماعة الإخوان، المصنفة بأنها جماعة دينية، وأن يهللن ويرقصن فرحا بالانقلاب على تلك الجماعة، التي تشكل نقيضا لكل ما يؤمنّ به، وأن يرتمين تحت قدمي السيسي، بوصفه "البطل" الذي خلصهن من كابوس تلك الجماعة. لذلك لم يكن غريبا أن تكتب إحدى الإعلاميات من بنات هذه الفئة: "إنت تغمز بعينك بس وحنا ملك يمينك"!
ـ فئة النساء البسيطات من الأميات وأشباههن: أكثر من ثلث النساء المصريات هن من غير المتعلمات على أقل تقدير. وإذا كان الإعلام "العكاشي" الروح، المأجور لصالح الأنظمة العسكرية الفاسدة المتعاقبة على حكم مصر، قد نجح في التلاعب بعقول الملايين من حملة الشهادات الجامعية العلياعلى مدار عقود، فلكم أن تتخيلوا مدى تأثيره في وعي البائسات اللواتي لا يستطعن فك الخط! النساء المكونات لهذه الفئة يضفين هالة من القداسة على الإعلام الحكومي، كما أنهن يغرقن تماما في عوالم الخرافات والخزعبلات والموالد وحلقات الزار.
ومن هنا؛ كان من الصعب عليهن الانسجام مع حكم جماعة الإخوان، التي صُورت لهن من جانب الإعلام المفتري بوصفها جماعة متطرفة ستحارب كل ما يعتقدنه مقدسا من شعائر وطقوس شركية منحرفة. فما كان أسهل أن ينظرن بعين الأمل والرجاء إلى السيسي وأن يهمن فيه، باعتباره "الفارس المنقذ"، الذي سيحافظ لهن على طقوسهن المخدرة التي تلهيهن عن أوضاعهن المزرية الموغلة في الفقر والجهل والمرض!
ـ فئة المسيحيات والمنتميات للجماعات السلفية: قد تستغربون، لكن ما يجمع بين الفريقين هو أكثر مما نظن. فالمسيحيات في مصر، وإن أعطين الانطباع بأنهن أقرب إلى الاتجاه العلماني، ربما بحكم طريقة ارتدائهن للملابس، إلا أنهن يخضعن إلى حد كبير لإملاءات الكنيسة، الدينية والسياسية، التي لم تكن تصب طبعا في صالح الإخوان. وهذا هو شأن المنتميات إلى بعض الأحزاب السلفية، وعلى رأسها حزب النور، التي تفرض غمامة سوداء على عيون تابعاتها، وتحدد لهن مواقفهن السياسية، حسب فهم ضيق وملتو وشاذ للنصوص الدينية.
ومن هنا نفهم ابتهاج النساء المسيحيات وأخواتهن السلفيات بالإطاحة بحكم الإخوان. دون أن نستبعد الفرضية التي تقول بأن عددا من الأحزاب السلفية البارزة، وفي مقدمتها حزب النور، هي في الأصل من صنائع جهاز المخابرات، حيث تم إيجادها لضرب التيار الإسلامي عامة، وجماعة الإخوان على وجه الخصوص!
لقد لعبت المرأة المصرية دوراً أساسياً مشرفاً فيما عرفت بثورة الخامس والعشرين من يناير، التي أجبرت الطاغية الفاسد مبارك على التنحي. قكم هو مثير للرثاء أن نراها هي ذاتها، أو ربما شقيقتها، وقد أسهمت في تنصيب حاكم يتفوق على مبارك وأسلافه بما لا يقاس،في فنون الطغيان والفساد!