نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا للمحقق السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، علي صوفان، تساءل فيه: "هل تخلت
إيران عن إرهابي أبراج
الخبر؟"، أي أحمد إبراهيم
المغسل المتهم بتفجير الأبراج في مدينة الخبر
السعودية عام 1996.
وجاء في المقال أن "إلقاء القبض على المتهم الرئيسي في تفجير أبراج الخبر في حزيران /يونيو 1996، أحمد إبراهيم المغسل، يبعث في نفسي البهجة والرضا، كوني محققا سابقا في (إف بي آي) ممن قضى سنوات وهو يحقق ويحبط هجمات إرهابية أخرى. ولا يحتمل أن يكون هناك اختراق أمني وراء القبض على المغسل في مناطق حزب الله. وهذا لا يعني التقليل من قدرة وكالات الاستخبارات حول العالم والمثيرة للإعجاب في التنسيق وملاحقة أشخاص مثل المغسل، الذي تجنب بنجاح الملاحقة ولسنوات طويلة.
وبالتأكيد فـ(كيف) تم إلقاء القبض عليه، الذي اشتركت فيه الخدمات الأمنية في لبنان والسعودية والولايات المتحدة، يستحق أن يكون موضوعا لروايات. ولكن السؤال لماذا سمح حزب الله بالتقاط المغسل من حديقته الخلفية دون انتقام أو حتى رد ملموس، وهذا في الحقيقة أكثر إثارة للدهشة".
ويبين صوفان أن "(لماذا) نابعة من التحول في مصالح كل من السعودية وإيران، والنابعة تحديدا من الوقائع التي فرضها الاتفاق النووي الذي سيطبق قريبا. فالاتفاق التاريخي أصبح في جيب إيران، وسيكون في هذه الحالة من الصعب على النظام منح ملاجئ آمنة لإرهابيين مطلوبين (وأيديهم ملوثة بدم الأمريكيين)، وممن يشكلون عبئا سياسيا ودبلوماسيا. ومن أجل أن تثبت إيران خطأ المتشككين بها عليها أن تظهر استعدادا لتغيير موقفها تجاه تقديم المأوى للإرهابيين".
ويضيف صوفان أن "القبض على المغسل يتناسب تماما مع هذه المعادلة، فهو شيعي مولود في القطيف في السعودية عام 1967، وكان إرهابيا لقي دعما من دولة، وآوته فيما بعد دولة.
وكانت (الدولة) في كلتا الحالتين هي إيران، التي تعاملت مع جماعتها الوكيلة حزب الله. فقد أدى تفجير أبراج الخبر إلى مقتل 19 عنصرا من سلاح الجو الأمريكي، كانوا يعملون على مراقبة مناطق الحظر الجوي في مناطق من العراق. وجرح المئات في أربع دول، وهي السعودية وإيران ولبنان وسوريا، وكان المغسل يعمل مع حزب الله اللبناني المدعوم من إيران، والحزب الآخر المدعوم منها وهو حزب الله الحجاز. وبعد أن قام بوقف شاحنة محملة بالقنابل قرب المجمع السكني للبرج غادر المكان، وقام بتفجير الشاحنة عن بعد، حيث كانت تحمل أكثر من تسعة آلاف كيلو غرام من مادة (تي أن تي)، ومن ثم هرب إلى إيران، بحيث أصبح بعيدا عن الملاحقة السعودية والأمريكية"
ويتحدث الكاتب عن التحقيقات التي تحولت كما يقول إلى "أوركسترا متنافرة تتكون من فنانين غير منسجمين، يقرأ كل واحد منهم من نوتة موسيقية مختلفة، ويتبع أوامر عدد من قادة الأوركسترا المتنافسين. ثم قرر مدير (إف بي آي) لويس فري التدخل، ولم يقم بزيارة مكان الحادث فقط، بل وضغط للتحقيق في الموضوع وعلى مدار سنوات بشكل ضايق البيت الأبيض. ولم يتوقف (إف بي آي) للدفع باتجاه تعاون أكبر مع السعودية، التي كانت مترددة (لنضعها هكذا) بإخبار المسؤولين الأمريكيين عن عمق التورط الإيراني في المؤامرة، فقد خشيت الرياض من عمليات انتقامية تقوم بها طهران، لو قامت الولايات المتحدة بالهجوم على إيران بناء على المعلومات التي جمعتها من السعودية. كما خشيت المملكة من الكشف عن وجود خلية إرهابية قوية مولتها ودربتها قوى أجنبية وكانت تعمل داخل حدودها".
ويقول صوفان إن "(إف بي آي) ظل مركزا على هجوم الخبر، وعده أولوية رغم ظهور قضايا إرهابية جديدة. ففي أثناء التحقيق في الهجمات على السفارات في شرق أفريقيا عام 1998، والهجوم على البارجة الأمريكية (يو أس أس كول 2000)، التي كنت مشاركا فيها وبدرجة كبيرة، لم يتوقف المكتب عن جمع الأدلة، أو حمل السعوديين على تقديم الأدلة التي يملكونها.
وحقيقة قيام الولايات المتحدة وأخيرا بإصدار اتهام في حزيران/ يونيو 2001، أي بعد خمسة أعوام من الهجوم، كان دليلا على وجود الحواجز الجيوسياسية والتصميم للعثور على طرق لتجاوزها. وكان المغسل واحدا من الذين وجهت لهم التهم، ولكنه ظل هاربا. وبعد ثلاثة أشهر من توجيه الاتهامات، قام تنظيم القاعدة بتفجير مركز التجارة العالمي، وأسقط طائرة فوق البنتاغون".
ويواصل الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، قائلا: "في 8 آب/ أغسطس، أي بعد حوالي 14 عاما، اعتقلت السلطات اللبنانية المغسل، بعد وصوله بيروت في رحلة من طهران، وكان يحمل جواز سفر إيرانيا وباسم مستعار. ومن ثم تم نقله عبر المناطق التي يسيطر عليها حزب الله إلى مركز الشرطة العام، للتحقيق معه وإتمام الإجراءات قبل أن يعود مرة ثانية إلى المطار، وهذه المرة ليتسلمه المسؤولون السعوديون".
ويتابع صوفان: "إن العمليات الأمنية في بيروت ليست سهلة أو واضحة، فكون مرور القبض على المغسل تم دون ملاحظة أو إبداء غضب، يعني أن الإيرانيين أو حزب الله لم يكونوا يعلمون بالأمر، وهذا غير محتمل، أو كانوا يعرفون وقرروا التنحي جانبا".
ويرى الكاتب أن العملية بكاملها يجب أن تجعلنا نفكر، "فبعد هذا كله، فالحياة في دولة تحمي الإرهابيين تظل جيدة حتى تتغير السياسة بطريقة درامية، فالتنافسات الإقليمية القديمة وديناميات القوة المترسخة نادرا ما تتحول بطريقة محددة في حياة الإنسان، وهو ما منح المغسل حياة آمنة نسبيا، وحرية داخل حدود جغرافية معينة، لكن هذا التحول يحصل أحيانا".
ويشير صوفان إلى "الإرهابي الفلسطيني المثير للرعب والمعروف بأبي نضال، والمتورط في موت المئات حول العالم، وهو صبري خليل البنا، الذي وجد حياة آمنة نسبيا في ليبيا عام 1987، بعد طرده من سوريا. ولم يقرر الزعيم الليبي معمر القذافي التخلص منه ومن مشكلاته إلا بعد ترحيل العميلين الليبيين عام 1999 إلى هيج، وعقد محكمة إسكتلندية للتحقيق في انفجار طائرة بان إم الأمريكية 103 فوق لوكربي عام 1988. وعندها طرد أبو نضال من ليبيا عام 1999، وقتل بالرصاص في العراق عام 2002".
ويوضح الكاتب أن "الأمر ذاته حدث مع إليش راميريز شانشيز المعروف بكارلوس الثعلب، والمسؤول عن تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في أوروبا، بما فيها واحدة في مقر منظمة أوبك في فيينا، وقتل مسؤولين أمنيين فرنسيين في باريس، وكلتاهما نفذتا عام 1975. وعندما لم تعد الدول تستسيغ تقديم المآوى له، انتقل راميريز شانشيز من بلد إلى آخر. فبعد طرده من سوريا، كجزء من تحولات إقليمية بسبب غزو الكويت عام 1990، واعتقد كارلوس الثعلب أنه وجد المأوى الدائم له في السودان. وجاء طرده من سوريا بعد دعم نظام حافظ الأسد، الكاره لصدام حسين، للحملة التي قادتها أمريكا لطرده من الكويت.
واستدعت الترتيبات الإقليمية قتال الجيوش العربية، ولأول مرة، إلى جانب التحالف الغربي ضد دولة عربية أخرى. فيما تمركزت قوات للولايات المتحدة في الكويت والسعودية. وبعد التحولات التي شهدتها مرحلة ما بعد النصر الذي حققه التحالف الأمريكي في الكويت، أعاد السودان النظر في موقفه وقرار استقباله كارلوس الثعلب. فقد كانت الخرطوم، كما ظهر لاحقا، مهتمة بالمساعدات الاقتصادية والدعم المالي أكثر من تقديم المأوى لإرهابي تريده السلطات الفرنسية بشكل كبير، وأدت فرنسا لاحقا دورا مهما في دعم الاقتصاد السوداني نتيجة لذلك. وفي عام 1994 خدع المسؤولون السودانيون كارلوس، وخدوره ونقلوه إلى عهدة فرنسا".
ويرى صوفان أن "حالة كارلوس تعيننا على فهم السياسات الغريبة التي تحدد مصير إرهابيين يلقون دعما من دول، كحالة المغسل، مع أن تفاصيل القبض عليه تظل غير مكتملة، وربما درست إيران الأمر: فاستمرار تقديم المأوى لإرهابي مطلوب ليس في مصلحتها، خاصة أن هناك فرصة أمامها كي تفتح أبوابها للعالم اقتصاديا ودبلوماسيا.
ومثل السودان عام 1994، تريد إيران كسر عزلتها الاقتصادية، حيث يعيش اقتصادها الذي يعتمد على النفط حالة يرثى لها، وذلك بسبب العقوبات وتراجع أسعار النفط. كما أن وكلاءها في سوريا واليمن ولبنان يحتاجون إلى مسؤوليات مالية على المدى البعيد، دون أن تكون هناك منافع واضحة. ومن هنا (فتسليم المغسل) سيزيل منغصا لن يعود إلا بالنفع القليل على حكومة تركز على مراكمة رأسمالها الدبلوماسي".
ويجد الكاتب أن "التحديات التي تواجه هذه القضية من تردد السعودية إلى الهجمات الإرهابية اللاحقة وعلى قاعدة واسعة، جعلتها قضية تامة من أجل تكون دائما (محلا للتحقيق). كما أن التحولات الإقليمية التي قرنت بتركيز (إف بي آي) الثابت، أدت إلى إلقاء القبض على إرهابي ظن أنه هرب بجرمه. ويجب أن يكون القبض على المغسل واعتقاله درسا للدول الراعية للإرهاب في كل مكان: فهؤلاء (الإرهابيون) ليسوا إلا بيادق وهم آمنون طالما كانت الدول بحاجة إليهم".
ويرى صوفان أن "علينا الانتظار ورؤية إن كانت إيران ستتخلى عن سياسة رعاية الإرهاب. ولكن على الدولة أن تكون مستعدة لأن تتحول في علاقتها مع أعدائها الألداء مثل السعوديين؛ فقد أجبر الاتفاق النووي إيران على مواجهة ما هو مهم: رعايتها للإرهاب، وتسليح وكلائها وتدخلها في الشرق الأوسط من لبنان إلى العراق وسوريا، وستقف في وجه مهمتها للتعامل مع العالم بشكل أوسع".
ويختم صوفان مقالته بالقول: "وكما أظهر التاريخ، فعندما تصبح أعباء إيواء الدولة لإرهابيين مثل المغسل أكثر من منافعهم، تقوم الدولة بتسليمهم وهي مرتاحة. اسأل كارلوس الثعلب".