رغم كل ما ينشر هنا وهناك عن
اكتشافات الغاز فى
مصر، وعن المستقبل الواعد الذي ينتظر مصر خلال ثلاث أو أربع سنوات - أي بعد إعادة انتخاب السيسي رئيسا للبلاد لمدة ثانية -إلا أنني ما زلت على موقفي الحذر من هذا الإعلان- ولا أقول المكذب، فالفرق كبير بين الحذر والتكذيب - ومازلت أرتاب في موعد وسياق الإعلان عنه.. وهناك ثلاثة أسباب تاريخية لهذا الحذر:
أولا: تجربتنا التاريخية التي لم يمض عليها إلا بضع سنوات عندما تم الإعلان عن اكتشافات للنفط والغاز دفعت مصر -بقوة الاندفاع غير الحذر- إلى تبني سياسات صناعية توسعية، وإلى التورط فى اتفاقات تصدير خارجية، ثم فجأة نضبت الآبار التي قيل لنا إنها ستبقى تعمل لعشرات السنين! ... النتيجة هي توقف مصانع الأسمدة عن العمل، ضمن مصانع أخرى، ووضع مصر فى حالة مواجهة مع أوراق ابتزاز قد تكلفها -إن لم تخضع للابتزاز- عشرات المليارات من الدولارات على سبيل التعويض! ... الاعتماد على "تصريح إعلامى" لشركة التنقيب لا يكفى وحده لتعليق الزينات، فلابد من تقارير علمية موثقة تخضع للدراسة من قبل الخبراء فى مصر، ولدينا فى كليات الهندسة وخارجها من يمكنهم الحكم على دقة -ولا أقول صدق- التقديرات التى أعلنت عنها الشركة.
ثانيا: تجربتنا التاريخية مع اتفاقات الغرف المغلقة بين الحكومة وبعض الشركات الكبرى لإصدار تصريحات إعلامية لتحقيق أهداف سياسية، ومنها مذكرات التفاهم بين الحكومة ممثلة فى وزارة الدفاع والمرشح الرئاسى المشير السيسي مع شركة أرابتك لبناء مليون وحدة سكنية، ومذكرة التفاهم مع شركة إعمار لبناء العاصمة الإدارية الجديدة التي فاجأنا بها النظام فى المؤتمر الاقتصادي، وأخيرا -وليس آخرا- الاتفاقات التى جرت بين النظام وبين شركة "ميرسك" الدنماركية بخصوص تفريعة قناة السويس التي لم يعلن عنها بشكل صريح إلا بعد افتتاح التفريعة ... كل هذه الاتفاقات المعتمة التي جرت تاريخيا وراء الأبواب المغلقة دون أي قدر من الشفافية تجعلني "حذرا" للغاية عند تعاملي مع أخبار الاكتشافات الغازية الجديدة، خاصة إذا سارع للتهليل لها نظام حكم فقد مصداقيته ولم يبذل جهدا للرقابة على مدى دقة هذا الإعلان الصادر عن الشركة.
ثالثا: - وهذا هو الأهم - هو عدم ثقتي على الإطلاق في رشد تعامل النظام مع قضية تخصيص الموارد وإعداد قائمة الأولويات.. كان لدى القذافي - على سبيل المثال - موارد نفطية هائلة، لكنه ترك بلاده ومواردها مهدرة في مشاريع لم تنجح في نقل المواطن الليبي إلى القرن الحادي والعشرين الميلادي... مصر فى المقابل كان - ومازال - لديها من الموارد الشيء الكثير، لكن تجربتنا التاريخية مع ترتيب أولويات النظام، ومع تخصيص الموارد الاقتصادية، إنما تجعلني حذرا للغاية حتى لو ثبت بالدليل القاطع صحة تقديرات شركة "‘إي إن آي" الإيطالية بشأن اكتشافها الأخير ... مشروع تفريعة قناة السويس الأخيرة هو مثل تاريخي قريب جدا في الزمن لعدم الرشد في تخصيص الموارد بالطريقة التي ينعكس أثرها على الارتقاء بمستوى معيشة المصريين وزيادة قدرتهم التنموية.
بالطبع هناك أسباب كثيرة أخرى تدفعني للحذر، وهي فضيلة من الواضح أنها غابت مع ما غاب من فضائلنا.. ولا يعنيني هنا من يريد أن يفرح ولو بخداع النفس، ولا من يريد أن يركب الهواء لمجرد أنه فقد اتصاله بأرض الواقعين: الواقع المصري الذي نعرفه جميعا، وواقع لعبة الصراعات الكبرى التي تعيش عليها القوى الدولية لتحقيق مراكز أفضل فى التوازنات الجيوستراتيجية، وقوى الرأسمالية العالمية التي تسعى لتعديل مواقعها على خريطة اقتسام ثروات العالم ... لكنني رغم وجود أسباب أخرى للحذر أكتفى بهذه الأسباب الثلاثة، فمن لا يتعلم من تاريخه - كما قال أرنولد توينبى - إنما يسهل اصطياده بالمصيدة نفسها وبقطعة الجبن ذاتها كما يتم اصطياد أجيال الفئران جيلا من بعد جيل منذ آلاف السنين!!
• الكاتب أستاذ بكلية اقتصاد وعلوم سياسية.