كتب الصحفي والأكاديمي الأردني، الدكتور موسى
برهومة، على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" يقول: "الطفل السوري الذي وعد، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بأن "يخبر
الله بكل شيء"، يستدعي إعادة التفكير في صمت السماء المثقوبة بالرصاص، ووقوف الإله متفرجا، وإطالة عمر الطغاة، وعدم الإصغاء لتضرعات المؤمنين وهم يذرفون الدمع الحارق في النجوى والدعاء".
وتابع برهومة "أخبره بكل شيء يا صغيري، واسأله كما فعل من قبلك
المسيح: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني"؟! علقت إحدى صديقات الكاتب على منشوره قائلة: "نعم هذا الإله يقف متفرجا وكل الذين آمنوا به"!.
وعلقت صديقة أخرى متسائلة: "في هذه الحالة للأسف دوما أتساءل: هل هناك عدالة حقا؟ هل هناك من مخلص؟ أهناك حقا من يرى كل تلك الجرائم ويقف متفرجا"؟ وقال صديق آخر في تعليقه: "موجع ومثير لكل أسئلة الوجود والخلق وفحوى الربوبية".
وأمام إلحاح صديق أبدى عدم استيعابه لعدم التعارض بين الفكرة التي طرحها الدكتور برهومة في منشورة، وبين قضية الإيمان بالله، قال برهومة: "لك أن تضع ما أوردته في سياق التأملات الفلسفية التي كان نيتشة هجس بها، عندما قال: "لقد مات الله، ونحن الذين قتلناه. أين الله؟ سأقول لكم: لقد قتلناه، أنتم وأنا! نحن، نحن كلنا قتلته!.. هل تعكس تلك التأملات والتساؤلات القلقة حالة تضعضع الإيمان أمام ضربات الواقع الموجعة لترتفع الأصوات المعذبة صارخة: أين الله؟ ولتتساءل في حيرة:
لماذا لا يتدخل -وهو القادر- لوضع حد لظلم الظالمين وبطش الجبارين؟ أم أنها تتوسل بتلك الوقائع الدموية المفجعة لترسيخ منهجية التشكيك بالعقائد الدينية، بحسب تعليق قال فيه صاحبه: "الإله لا يصمت، لكنه يعقد خلوة للتفكير بالرد.. قتلتنا تلك الفكرة الغبية عن إله ينتصر للمظلومين".
الإنسان يصنع قدره بحرية اختياره
في معرض تفسيره لدوافع الناس في طرح تلك التساؤلات القلقة، رأى الباحث الفلسطيني، المهتم بدراسات فلسفة الدين ومقاصده، أحمد أبو ارتيمة أن "دوافع الناس ستظل دائما مختلفة"، لافتا إلى أن "هذه فرصة لتقديم خطاب ديني يحترم العقل ويقدم إجابات شافية عن الأسئلة الشائكة والقلقة المطروحة".
واعتبر أبو رتيمة أن قضية "حرية الإنسان في الاختيار" هي المدخل الملائم لمحاورة أرباب تلك التأملات والتساؤلات، "فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك حرية اختيار كاملة، وهي تحتمل أن يفسد الإنسان في الأرض، ويشعل الحروب، وتحتمل أن يصنع الأمن والسلام".
يتابع أبو رتيمة حديثه لـ"عربي 21" قائلا: "لو كان محظورا على الإنسان قدريا أن يقتل ويفسد لما كانت حرية الاختيار مطلقة، لكنه سبحانه ترك البشر في هذه الذرة الصغيرة من الكون التي اسمها كوكب الأرض ليصوغوا أقدارهم باختياراتهم الحرة".
ووفقا للباحث (أبو ارتيمة)، "فإن الإنسان يصنع قدره بنفسه، سواء كان هذا القدر حروبا وإفسادا، أو سلاما وإصلاحا، والله في جميع الأحوال كرم الإنسان بأن أعطاه الاختيار الحر إلى آخر مدى".
وتساءل أبو ارتيمة: "ما معنى اعتراضنا على عدم تدخل الله ليوقف الحروب والدمار، بينما هو أعطانا حرية الاختيار المطلقة لنفعل ذلك؟، وهل سيمنع الله البشر لو قرروا يوما ما أن يجتمعوا ويصنعوا السلام، ويتوقفوا عن سفك الدماء والإفساد في الأرض"؟
ونبه أبو ارتيمة إلى أن "الإنسان وحده هو الذي يسخط من واقعه، لكنه يغيب عن باله أن هذا هو الوجه الآخر لكونه حرا في اختياره، ومعنى الحرية وفلسفتها أن يتركك الله ليختبرك".
الإله حي قيوم له الخلق والأمر
في سياق مقارب، تشيع في أوساط مثقفة مقولة مفادها أن الله خلق الخلق وتركهم لشأنهم، بعد أن أقام الكون والعمران البشري على جملة من القوانين والنواميس والسنن الثابتة، فالله لا يتدخل في شؤون خلقه، لأنه خلق الخلق وتركه، وللخلق أن يديروا شؤونهم بما يرونه يصلح حالهم بلا مرجعية دينية، ولا توجيه سماوي.
يرجع الدكتور وليد شاويش، أستاذ مشارك بقسم الفقه وأصوله في جامعة العلوم الإسلامية الأردنية، مقولة أن الله خلق العالم، وتركه إلى أصولها اليونانية، فهي من إنتاج تلك الفلسفة وتولدت في رحمها، مقررا أن الله تعالى في التصور العقدي الإسلامي أجل وأعظم من أن يخلق عالما بديعا دقيقا مدهشا ثم يتركه هكذا ويقطع صلته به.
وبين شاويش أن تجليات تلك الفلسفة وامتداداتها ماثلة في حياتنا المعاصرة، فما دام أن الله خلق خلقه ثم تركهم، فلهم أن يفعلوا في حياتهم ما يشاؤون، بعد أن اختاروا في شأنهم الدنيوي الانقطاع عن السماء، وعزل أنفسهم عن مرجعية الوحي الإلهي.
وأوضح أستاذ الفقه وأصوله أن مقاربة العقائد الغيبية بمنظار فلسفي فيه قصور كبير، وهو ما وقعت فيه سائر الاتجاهات الفلسفية، لأنها حاولت التعرف على الغيب بالعقل، مع أن معرفة الغيب على وجه اليقين لا تنال إلا بالنقل والسمع الشرعي الموصول برسالات السماء.
وتابع شاويش بأن الله اختار سبحانه أن يُعرِّف ذاته العليّة إلى خلقه عن طريق الرسل، ولو كان العقل البشري قادرا على الاستقلال بتلك المعرفة لأوجب عليهم ذلك من غير حاجة لإرسال الرسل، فجاءت الرسل لتبين للناس أن ما كان حسيا فله منهجه الحسي، وما كان غيبيا فله منهجه الغيبي، فبذلك يقوم التوازن في النظر والفهم والاستدلال.
وردا على سؤال "عربي 21" عن مدى تأثير فكرة "موت الإله" للفيلسفوف الألماني فريدرك نيتشة، في أوساط المثقفين العرب، رأى شاويش أن أبرز تجليات تلك الفكرة نجدها في الفكر والأدب، بجعلها تأويل النص الديني مشاعا لكل أحد، بلا أي قيود أصولية أو منهجية، فما دام أن الإله قد مات، فمن حق قارئ نصه "تأويله" بحسب المناهج التأويلية المعمول بها في قراءة سائر النصوص الأدبية.
سنن وقوانين إلهية لا تحابي أحدا
تُظهر دراسة تاريخ الأديان، خاصة دراسة حركة الرسل في دعوتهم لأقوامهم، أن كثيرا من الأمم السابقة المكذبة برسلها، أُهلكت بفعل إلهي قاهر وحاسم، وأن التدخل الإلهي المباشر بصورته الظاهرة قصم ظهور بعض الطغاة المتجبرين، كفرعون وقارون وغيرهما.
يشرح الدكتور مأمون جرار، الداعية الإسلامي، المتخصص في دراسة رسائل النور (رسائل الإمام التركي سعيد النورسي) ما قصه علينا القرآن من نبأ الأقوام السابقة ومصائرها، وكيف أغرق قوم نوح بالطوفان، وعادا بالريح الصرصر العاتية، وثمود بالصيحة، وقوم لوط جعل عالي ديارهم سافلها، وأرسل عليهم حجارة من سجيل، وفرعون ومن معه بالغرق، وقارون بالخسف.
وأضاف جرار: "وحين جاء أبرهة الأشرم ليغزو الكعبة، ولم يكن لأهلها قوة تجابهه تدخل القدر الإلهي، فأرسل على أبرهة وجيشه طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل"، أما بعد الرسالة المحمدية، فرأينا الأمرين، فقد كانت خوارق للعادات في نصرة الرسول عليه السلام ومن معه، كما في الهجرة وغزوة بدر والخندق وغير ذلك، والأخذ بالأسباب المادية المتعارف عليها بين الناس.
وجوابا عن سؤال "عربي 21" حول سريان القوانين الإلهية على المسلمين وغيرهم، أوضح جرار أن الدنيا محكومة بقوانين ربانية فاعلة تجري على المسلمين وغيرهم، فمن أخذ بها علا وحقق ما يريد، ومن تخلف عن الأخذ بها فشل، ولذلك أخذ الرسول بها عملا بقوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم..).
وخلص جرار إلى القول: "الحياة على الأرض تحكمها قوانين تمس المسلمين وغيرهم، تُخرق أحيانا لتذكر البشر بالقوة الربانية المهيمنة من وراء الأسباب".
ووفقا للباحث الفلسطيني أبو ارتيمة، فإن "الله كان يتدخل بالمعجزات في زمن الطفولة البشرية، أما حين نضج الفكر الإنساني، فقد توقفت المعجزات، ونبه الله الإنسان إلى سننه الاجتماعية ليصلحوا واقعهم بإرادتهم الحرة"، مستذكرا ما كان يقوله الشاعر والمفكر الباكستاني محمد إقبال: "كانت رسالة محمد إيذانا بميلاد عصر العلم، رغم أنها جاءت في عصر غير علمي".