التظاهرات الشعبية التي تشهدها شوارع بيروت هذه الايام احتجاحا على سياسات الحكومة
اللبنانية، اثارت الكثير من الاسئلة حول اسبابها واهدافها ونتائجها، وقد سألني الكثير من الاصدقاء العرب: هل ما يجري هو ربيع بيروت ؟ وهل هو مقدمة لثورة شعبية عربية جديدة شبيهة بما جرى في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين بغض النظر عن نتائج هذه الثورات الشعبية العربية؟ وهل هناك علاقة لما يجري في بيروت اليوم بما يجري في العراق من تظاهرات شعبية ضد الفساد في العراق وهو يحظى بدعم واضح من المرجعية الدينية في النجف الاشرف؟.
وللرد على هذه الاسئلة لا بد من الاشارة الى ان ما يجري اليوم كان تحركا عفويا من قبل مجموعات شبابية ردا على ازمة النفايات في لبنان بعد اقفال بعض المطامر وغرق العديد من المناطق اللبنانية بالنفايات، وقد تشكلت حملة شبابية تحت عنوان: طلعت ريحتكم (اي انتشرت الرائحة النتنة) للدعوة للتظاهرات والاعتصامات احتجاجا على سياسات الحكومة اللبنانية، ومن ثم تطورات هذه التظاهرات وتحولت للاحتجاج على كل النظام الفاسد في لبنان وبدأت تدعو لاسقاط الحكومة ومجلس النواب والنظام الطائفي كله، وانضم للمحتجين فئات واسعة من الشباب ومؤسسات المجتمع المدني من كل المناطق اللبنانية وتوسعت التظاهرات وبدأت تشكل خطرا حقيقيا على الحكومة اللبنانية.
وفي مواجهة هذه التظاهرات عمدت السلطة اللبنانية في يوم السبت الماضي للرد عليها من خلال اطلاق الرصاص الحي والمطاط والقنابل المسيلة للدموع والقمع القاسي والاعتقالات، فكان الرد من الشباب بالنزول الى الشارع بشكل اكبر وانضم للمتظاهرين والمعتصمين في وسط بيروت الالاف من المواطنين، ووافق رئيس الحكومة تمام سلام على مفاوضاتهم واطلاق المعتقلين وتشكيل لجنة تحقيق، لكن التظاهرات كبرت وتوسعت ، فانضم اليهم بعض المندسين المرتبطين بجهات سياسية ورسمية وبدأوا بتشويه صورة التظاهرات وارتكاب اعمال عنف وتخريب، فانقسمت التظاهرات ولجأت القوى الامنية لقمع المتظاهرين مرة اخرى وبدأت الخلافات تسود اوساط المنظمين بين من يدعو للاستمرار في التحرك وبين من يريد اعادة النظر بالتحركات، لكن الاوساط الشعبية استمرت بالتحركات ونزل الناس الى الشارع مرة اخرى وهناك دعوات جديدة للتظاهر.
وتتشكل النواة الاساسية للمتظاهرين من مؤسسات المجتمع المدني ومن مجموعات شبابية سبق لها ان قامت بتظاهرات شعبية عام 2011 وعام 2013تحت عنوان: اسقاط النظام الطائفي ورفض التمديد للبرلمان اللبناني ولدعم اقامة نظام علماني غير طائفي، وان كانت التظاهرات اليوم ضمت شرائح شعبية جديدة بسبب القضايا الاجتماعية والمطلبية.
هذه التظاهرات تؤكد ان الوضع في لبنان قد وصل الى مستوى خطير من الفساد والخراب وان الناس لم تعد تتحمل السكوت وهي تريد الانتفاض على النظام والقوى السياسية والحزبية القائمة، وان هناك تشكيلات جديدة تبرز من خارج الاصطفافات التقليدية بين قوى 8 و14 اذار، وان النظام اللبناني وصل الى مرحلة لم يعد قادرا على اخفاء العيوب والاشكالات التي يعاني منها ولا بد من التغيير.
لكن في الوقت نفسه ورغم اهمية ما جرى والدلالات المهمة والخطيرة لهذه التحركات ، فانه لا بد من القول: ان ربيع بيروت لم يتحقق بعد وان مسيرة التغيير طويلة وتحتاج الى نفس طويل، لان النظام الطائفي في لبنان لا يزال قويا، ولان القوى السياسية والحزبية في لبنان لن تسمح بسهولة ببروز تشكيلات جديدة تحل محلها وتأخذ مكانها ودورها في الواقع السياسي والحزبي في لبنان، ولذلك فان امام الشعب اللبناني مرحلة صعبة وطويلة كي يحقق التغيير الشامل والحقيقي.
ومع صعوبة التغيير في لبنان، لا بد من القول ان ما جرى ويجري في شوارع بيروت وفي العديد من المناطق اللبنانية وما يجري ايضا في العراق من تحركات شعبية، كل ذلك يشير الى اننا بدأنا نشهد مؤشرات جديدة في الواقع العربي الذي شهد تراجعا للثورات والربيع الذي انطلق عام 2011، فلعل ما يجري اليوم يصحح الصورة مجددا وياخذنا الى مناخات جديدة من النضال غير الطائفي وغير المذهبي ويفتح لنا كوة امل في هذا الليل المظلم الذي يحيط بنا.