لو كان هناك شيء يجمع عليه كل من يتابع تطورات الشأن السياسي البريطاني خلال الشهر الأخير فهو أن جيريمي كوربين لا يمكن أن ينتخب.
كتب بيتر هين، الوزير العمالي السابق، في صحيفة الغارديان الشهر الماضي يقول: "لا أحد يتصور أن كوربين يمكن أن يكون رئيسا للوزراء"، تشبه فرضية عدم إمكانية انتخاب كوربين، النائب العمالي عن دائرة شمال إزلينغتون في لندن، المناخ البريطاني: قد لا نحبه ولكننا لا نملك فعل شيء بشأنه، ولعل من المحبط فعلا، أن يسود هذا الاعتقاد حتى بين أنصار كروبين نفسه.
حينما يتعلق الأمر بالتغيير الاجتماعي التقدمي، يبدو أن كثيرا من الناس يؤيدون ما ورد على لسان هيلاري وينرايت، محرر "ريد بيبر" من وصف "الفرضية المحافظة التي ترى أن ما هو ممكن يمكن أن يختزل في الاختيار بين ما هو قائم الآن وما كان موجودا يوما ما في التاريخ.
ولكننا لسنا بحاجة إلى تصور مستقبل جديد تماما حتى نتحدى ادعاء النخبة السياسية بأن كوربين غير قابل للانتخاب، بل كل ما نحتاج لأن نفعله هو الإلتفات إلى القطب المعاكس تماما لكوربين في البوصلة البرلمانية السياسية: أي مارغريت ثاتشر.
قد تبدو اليوم السيدة الحديدية عملاقا تاريخيا كان متوقعا لها منذ البداية وباستمرار أن تصبح رئيسة للوزراء، ولكنك لو أعدت عقارب الساعة إلى الوراء أربعين عاما فستجد ثاتشر تدخل حلبة المنافسة، مثلها مثل كوربين، أملا في أن تصبح رئيسة لحزب المحافظين بعد أن مني تيد هيث بالهزيمة مرتين في الانتخابات العامة التي جرت في عام 1974.
كلنا نعرف ما الذي جرى بعد ذلك، تم انتخاب ثاتشر رئيسة لحزب المحافظين في عام 1975 ثم انتخبت رئيسة للوزراء في 1979 وبقيت في الموقع نفسه أحد عشر عاما، وكانت سنوات حافلة بالأحداث الجسام.
ولكن، كيف بدت فرص نجاحها في عام 1975 تقريبا؟ كتب جون كامبيل في السيرة التي ألفها عن حياة مارغريت ثاتشر في معرض شرحه للظروف التي أدت إلى فوزها في المنافسة على زعامة الحزب بعد تيد هيث: "كان ذلك تحولا مذهلا لم يكن أحد ليتنبأ به قبل اثني عشر شهرا من وقوعه: كان واحدا من تلك الأحداث غير المتوقعة بالمرة، ولكنه قد يبدو للناظر بأثر رجعي كما لو كان مقدرا".
يتفق مع ذلك تشارلز مور، الذي ألف كتابا آخر في سيرة ثاتشر، حيث يقول: "كثيرون اعتبروا ترشحها مجرد فرصة لتمهيد الأرض لظهور منافس أقوى حظا أو ربما فرصة للساخطين لينفسوا عن غضبهم.” أما آن بيركينز، من صحيفة الغارديان، فأشارت ببساطة إلى أن ثاتشر كانت تعتبر من قبل حزبها نفسه غير قابلة للانتخاب، بل يبدو أن ثاتشر نفسها كانت واحدة ممن ساورهم الشك إزاء إمكانية نجاحها في الانتخابات، حيث أخبرت سكرتيرها البرلماني الخاص بما يلي: “ليس الحزب مهيئا بعد لكي تقوده امرأة ولن أسلم من الصحافة التي ستعلقني على الصليب".
لقد كانت محقة، فحسبما تقول بيركينز كانت كل الصحف، كما كان دينيس زوج ثاتشر، يظنون بأنها فقدت عقلها، وحينها كتب وودرو وات في الصنداي ميرور، يقول إن ثاتشر ستقود حزب المحافظين في اتجاه متطرف يكرس الطبقية التوجهات اليمينية وهذا بدوره سيحرم الحزب من الوصول إلى السلطة لعقد كامل.
وأما مجلة الإيكونوميست فعلقت على الأمر بالقول إنها ذلك النوع من المرشحين الذي يتوجب عليه أن يكون قادرا على المنافسة والخسارة دون ضرر، ونعود إلى كامبيل التي قالت في ذلك: "كان كبار المنتسبين إلى تيار هيث داخل حزب المحافظين يعتقدون بأنه يتوجب على الحزب أن يحافظ على موقف وسطي إذا ما أراد أن يحسن من فرصه في الفوز في الانتخابات".
إذا كانت مثل هذه الأجواء تتكرر بشكل عجيب بعد أربعة عقود، استمع إلى مور وهو يعرض تجربة أخرى مدهشة في السياق التاريخي نفسه: "بينما كانت الحملة الانتخابية على وشك الدخول في مراحلها النهائية، عمدت "المؤسسة" التي قررت السيدة ثاتشر تحديها إلى سل جميع أسلحتها".
بالطبع ثمة فروق أساسية كثيرة بين حملة ثاتشر وحملة كوربين للفوز بقيادة حزبيهما، وكذلك في محاولتهما لقيادة البلاد، هذا فيما لو نجح النائب العمالي فعلا بالفوز في الانتخابات.
ولكن، تبقى الفكرة الأساسية، والجلية، التي أطرحها قائمة، وهي أن غير المتوقع يمكن أن يتحقق، بل وقد حصل فعلا أن تحقق، ويمكن أن يتحقق بأسرع بكثير مما كان يتوقعه الناس.
باختصار، لا يوجد ثمة قوى تاريخية أو سياسية غير متغيرة ولا أسباب منطقية تحول دون أن يصبح جيريمي كوربين رئيسا للوزراء.
في الانتخابات العامة اليونانية عام 2009 لم يحصل حزب سيريزا سوى على 3.6 بالمائة من الأصوات، ثم ها هو بعد ستة أعوام يحكم البلاد، تشكل حزب بوديموس الإسباني المعارض للتقشف في يناير من عام 2014 وبعد عشرة أشهر أظهرت استطلاعات الرأي أنه أصبح أكثر الأحزاب شعبية في إسبانيا.
وفي العام نفسه فاز حزب الاستقلال البريطاني بانتخابات البرلمان الأوروبي، وفي عام 2010 حصل الحزب القومي الاسكتلندي على ستة مقاعد في الانتخابات العامة، ثم في أيار/ مايو من هذا العام تمكن الحزب من خلع العمال بالكامل والفوز بـ56 مقعدا من أصل 59 مقعدا تمثل اسكتلندا في البرلمان البريطاني، وفي عام 2008 تقلد رجل أسود منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعل هذا يشبه ما كان يقوله طوني بين، الذي كان مولعا بالتعليق على التغير الاجتماعي الجماهيري: "في البداية يتجاهلونك، ثم يقولون إنك مجنون، ثم يقولون إنك خطير، ثم يحصل توقف لبرهة، ثم لن تجد شخصا من بعد يخالفك فيما تقول".
ينطبق ما كان يقوله طوني بين تماما على ما تمر به حملة صديقه كوربين في التنافس على زعامة الحزب، ففي حزيران/يونيو ذهبت بولي توينبي إلى محو كوربين من السباق تماما تقريبا، حيث قررت بكل عجرفة أن فرص المرشحين الثلاثة الآخرين هي الأقوى قبل أن تقرر أن الحظ في الأغلب سيحالف إيفيت كوبر، وزيرة الداخلية في حكومة الظل العمالية، لأنها الأفضل من وجهة نظرها.
وفي وقت مبكر من هذا الشهر نشرت صحيفة الغارديان مقالا كتبه وزير الداخلية السابق "ألان جونسون" عنوانه "لماذا على حزب العمال أن يضع حدا لهذا الجنون وينتخب إيفيت كوبر".
وفي مقابلة لم تحظ بكثير من التغطية الإعلامية قال كين كلارك، وهو من الشخصيات السياسية الوازنة في حزب المحافظين، محذرا: "لا تقللوا من قيمة جيريمي كوربين... ليس مؤكدا أنه سيخسر في الانتخابات… إذا ما مرت البلاد بركود اقتصادي آخر أو إذا ما أصبحت حكومة المحافظين غير مرغوب بها، فقد يفوز هو في الانتخابات".
ما من شك في أن كلارك كان أكثر اهتماما بنتائج استطلاع سيرفيشن الذي أظهرت كوربين متقدما على منافسيه، وبأنه أكثر شعبية منهم، وخاصة في صفوف أنصار حزب الاستقلال البريطاني.
حينما سئل الذين استطلعت آراؤهم من هو الشخص الذي يظنون أنه صاحب الحظ الأوفر في الفوز بالانتخابات العامة القادمة كرئيس لحزب العمال، جاء جيريمي كوربين في المرتبة الأولى مع أندي بيرنهام. وفي استطلاع نظمته مؤسسة يوغوف لصالح صحيفة ذي إيفنينغ ستاندارد تبين أن كوربين "يتمتع بدعم أكبر بين جماهير لندن من مجموع ما يتمتع به أقرب المنافسين إليه مجتمعين، أي آندي بيرنهام وإيفيت كوبر".
وحقيقة أن كثيرا من المواقف السياسية التي يتبناها كوربين تلقى دعما من غالبية الرأي العام يمكن أن تزيد من فرصه في النجاح في الانتخابات.
إذن، قبل أن يكرر السياسيون والصحفيون، بل وحتى أنصار كوربين، ما تردده "المؤسسة" من أن كوربين غير قابل للانتخاب، عليهم أن يتأملوا في كلمات نيلسون مانديلا، الرجل الذي كان يعرف شيئا أو أكثر عن التغيير السياسي، إذ كان يقول: "دائما يبدو الأمر مستحيلا إلى أن يتحقق".