كتب غالب دالاي: لقد فتح التفجير الذي وقع في بلدة سوروتش التركية يوم 20 تموز/ يوليو 2015 – وأودى بحياة 32 شخصا وتسبب في إصابة المئات – فصلا جديدا في عملية
السلام التي كانت من قبل تحظى بالأهمية القصوى في
تركيا.
ورغم أن هذا التفجير قامت به في الأغلب عناصر مما بات يعرف بـ"
الدولة الإسلامية" أو "
داعش"، فإن حزب العمال الكردستاني سارع إلى اتهام تركيا بالمسؤولية عنه، وقام عناصر تابعون له في يوم 22 تموز/ يوليو 2015 باغتيال ضابطي شرطة خارج أوقات الدوام انتقاما لضحايا حادث التفجير.
كان هذا ما مهد الطريق أمام تركيا لتقصف مواقع حزب العمال الكردستاني داخل إقليم كردستان العراق، وهي العملية التي استمرت حتى يومنا هذا. وما لم يسارع إلى السيطرة على ما يجري ويتم احتواؤه، فإن هذا العنف والعنف المضاد له، سيخرج عن السيطرة وسيؤدي بذلك إلى خسائر جسيمة وعشوائية يتكبدها الطرفان.
ما من شك في أن عملية السلام بين تركيا والأكراد تمر بظروف صعبة، وما من شك أيضا في أن تركيا لا يسعها أن تنهي العملية تماما.
وما لم يوجد خيار أفضل، وإلى أن يحصل ذلك، فإن عملية السلام التي مضى عليها عامان ونصف العام تظل هي الخيار الوحيد المتاح الذي يمكن أن يسهل درب تركيا نحو مزيد من الديمقراطية والازدهار، ويوفر للأتراك والأكراد على حد سواء إطارا أفضل للاستمتاع بمستقبل أفضل يمكن الجميع من تحقيق الذات والتخلص إلى الأبد من شرور العنف وسفك الدماء.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: كيف ينبغي على تركيا وحزب العمال الكردستاني الانطلاق إلى الأمام بعملية السلام، وخاصة بعد اندلاع هذه الموجة من العنف وتصاعد أعداد الضحايا في الطرفين، مع العلم بأن هذه الأحداث الأخيرة لم تكن السبب وإنما هي أعراض لتخبط هذه العملية؟
تكمن الأسباب في غير ذلك من المواقع، وهي ذات طبيعة بنيوية أكثر من أي شيء آخر، وتتطلب منا مراجعة الفرضية التي قامت عليها العملية طوال الوقت، وخاصة في الجانب الحكومي. ولذلك بات واضحا أنه لم يعد ممكنا لعملية السلام أن تستمر كما كانت عليه حتى الآن.
وقبل الغوص في هذه العوامل وفي هذه الفرضيات، فلعله من الضروري التأكيد على خاصية تغلب على عمليات السلام وعلى التجارب التي تمر بها مشاريع حل الصراعات بشكل عام.
تقريبا في كل حالات فض النزاعات وعمليات السلام لا يوجد خط مستقيم وسلس بين بداية العملية ونهايتها، بل إن الطريق في العادة يكون وعرا، مليئا بالمطبات، وكثيرا ما تمضي مثل هذه العمليات قدما لتتوقف من حين لآخر ثم تبدأ من جديد. وقد تتخللها فترات دموية ومحاولات تجديدية تعقد عليها الآمال.
ولا يشذ عن ذلك ما طرأ مؤخرا من اقتتال بين الجيش وحزب العمال الكردستاني، بل يمكن اعتبار ما جرى أمرا مألوفا وسمة من سمات عمليات السلام.
ولكن ذلك لا يعني أنه يتوجب على العملية أن تستمر كما لو أن شيئا لم يحدث، بل إن مثل هذه المقاربة يمكن أن تضر وتنعكس سلبا على المسار بأسره. لا ينبغي أن تعامل هذه العملية كما لو أنها كانت مجموعة من القواعد والإجراءات والمبادئ الي حفرت في الصخر والتي لا تقبل التعديل أو التبديل، والتي ينبغي الالتزام بها من قبل الأطراف المتخاصمة بغض النظر عما يطرأ على الأرض من تطورات جديدة.. بل إنه يتوجب أن تؤخذ المعطيات والسياقات والمطالب الجديدة بعين الاعتبار لتمهد الطريق للتوصل إلى بنية جديدة. وبناء عليه، فإنه ينبغي على تركيا أن تعيد النظر في فرضياتها السابقة بشأن عملية السلام وأن تسعى إلى إعادة بناء العملية على أسس جديدة.
فرضيات لا دليل عليها
بادئ ذي بدء، إن من العوامل التي أدت إلى بدء العملية السياسية السلمية هو الشعور السائد ضمن دوائر صناعة القرار في تركيا وداخل الأطر القيادية لحزب العمال الكردستاني، أنه تم الوصول إلى حالة من الجمود. أما الآن، فقد بات حزب العمال الكردستاني يعتقد بأن التطورات الإقليمية التي طرأت مؤخرا قد حسنت بشكل كبير من وضعه.
إن التشكيل الشقيق له في سوريا، أي حزب الاتحاد الديمقراطي، حقق مكاسب مهمة، حيث إنه تمكن من إقامة جيوب تتمع بالاستقلال الذاتي في شمال البلاد التي تعصف بها الحرب الأهلية على الحدود مع تركيا، الأمر الذي يبدو أنه أقنع حزب العمال الكردستاني بمراجعة مواقفه ومطالبه في عملية السلام. وساد الاعتقاد لدى حزب العمال الكردستاني أنه بمجرد تعزيز المكاسب التي حققها الكرد في سوريا، فإن ذلك سيمكنه من الجلوس على طاولة المفاوضات مع الحكومة التركية وقد قويت ذراعه وتعزز وضعه، ما يؤهله للمطالبة بمزيد من التنازلات التي كانت تعتبر من قبل صعبة المنال.
إذن، يمكن القول بأن مزاج حزب العمال الكردستاني المزهو بالنصر حل محل الإحساس السابق بأن الأمور وصلت إلى حالة من الجمود في الصراع. لقد كان هذا التغير في قراءة حزب العمال الكردستاني للشؤون الإقليمية ولموقفه منها، أحد العوامل الأهم في تراجع تصميم حزب العمال الكردستاني على السعي للتوصل إلى تسوية سلمية للقضية الكردية في تركيا في لحظة زمنية تمر خلالها المنطقة بأسرها في تحول كبير، يعتقد حزب العمال الكردستاني أن الكرد سيخرجون منها وقد تعزز وضعهم وقوي ساعدهم وتحقق لهم المزيد من الانتصار. بمعنى آخر، لم يعد لدى حزب العمال الكردستاني ما يحفزه أو يضطره إلى السعي نحو مسار سلمي سريع لحل القضية الكردية.
ثانيا، وكنتيجة بديهية، فقد أصبح الفرق واضحا جدا بين فهم الجانبين لما ينبغي أن يكون عليه الحل المستشرف، بالرغم من أنهما كانا في ما مضى يمران عليه مر الكرام.
في مثل هذا الظرف لم يعد حزب العمال الكردستاني يرى، إن كان رأى ذلك من قبل على الإطلاق، أن المسألة الكردية هي نتاج نقص ديمقراطي لدى تركيا وبذلك يكمن علاجها في مزيد من التحول الديمقراطي في البلاد. لقد كانت بالتأكيد بعض جوانب المسألة الكردية ناجمة عن سجل تركيا الرديء في مجال الديمقراطية، ومع ذلك فإن حزب العمال الكردستاني يرى من منطلق إثني وقومي أن الأمر يتجاوز ذلك. إن أهم أمر بالنسبة لحزب العمال الكردستاني أن تتضمن أي تسوية إطارا يتشاطر من خلاله الترك والكرد السيادة فيما بينهم.
ومن هذا المنطلق، وفي ما يتعلق بحل المسألة الكردية، فإن صيغة المزيد من التحول الديمقراطي في تركيا تعتبر أمرا لا يناسب الموقف السياسي لحزب العمال الكردستاني، وهو الموقف الذي يتأسس على المطالب والتطلعات.
ثالثا، كانت العملية من قبل تعتمد أساسا على الالتزام السياسي الذي أبداه كل من رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا في ذلك الوقت ورئيس الجمهورية الحالي، وعبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، وهما الشخصيتان السياسيتان الأهم على الإطلاق في الأطر السياسية التركية والكردية على الترتيب. وإنه أخذا بالاعتبار أهمية ومركزية شخص أوجلان ضمن السياسة التي يقودها حزب العمال الكردستاني، فقد اعتقدت الحكومة أن أوجلان يملك النفوذ السياسي والفطنة التي تمكنه من انتزاع موافقة من حزب العمال الكردستاني على صفقة وإطار سياسي قد يتوصل أوجلان إلى إبرامهما مع تركيا.
إلا أن ذلك كان بلا جدوى. ولعل في هذا إثبات على أنه في سبيل تحقيق نزع لسلاح حزب العمال الكردستاني، تحتاج الحكومة إلى التحاور مع عناصر فاعلة أخرى إلى جانب أوجلان. ففي نهاية المطاف، ما لم تقتنع قيادة حزب العمال الكردستاني التي تتخذ لنفسها مقرا في جبل قنديل داخل كردستان العراق فإن الهدف الذي تسعى الحكومة إلى تحقيقه، أي تحديدا نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، سيبقى بعيد المنال.
ولكن تبقى المسألة الكردية، مع ذلك، أشمل وأعقد من مجرد وقف حزب العمال الكردستاني لنشاطه المسلح ضد تركيا. في الواقع، إنه من شأن تخلي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه أن يهيئ فقط الأرضية التي تيسر تحول الجوانب السياسية والمدنية للمسألة الكردية إلى قضايا ذات أولوية داخل تركيا. وهذا يتطلب من الحكومة الدخول في حوار مع أطراف كردية أخرى غير حزب العمال الكردستاني.
فمنذ بدء العملية السلمية لم تميز الحكومة بين المسألة الكردية كقضية إثنية وقومية وقضية حزب العمال الكردستاني كحركة تمرد مسلح. لا يمكن إنكار أن ثمة قدرا كبيرا من التداخل فيما بين القضيتين، ولكن من غير الحكمة على الإطلاق التعامل معهما كما لو كانا شيئا واحدا، ولذلك فقد آن الأوان لأن يتحقق مستوى معين من التمييز فيما بينهما.
لقد أزعجت الحكومة التركية الجماعات الكردية غير المنضوية تحت مظلة حزب العمال الكردستاني لأنها اكتفت، انطلاقا في الأغلب من السهولة والمواءمة السياسية، بالتحاور مع الحزب دون غيره سعيا وراء إيجاد حل للقضيتين.
وطالما عبرت الجماعات الكردية خارج حزب العمال الكردستاني عن امتعاضها وعدم رضاها عن مثل هذا الأسلوب، وطالبت بإشراكها في الحوارات التي تجري بهدف حل المسألة الكردية. وهذا حق لها ومطلب ديمقراطي مشروع، ولذلك تحتاج الحكومة لأن تستجيب لها. وأما في ما يتعلق بحل الجانب السياسي والمدني من المسألة الكردية، فإنه ينبغي أن يكون تعدد الجهات المشاركة في الحوار مع الحكومة جزءا أساسيا من أي استراتيجية تنتهجها الحكومة بهدف حل المسألة الكردية.
بالنظر إلى كل هذه التغيرات، فإنه يبدو واضحا أن عملية السلام بين تركيا والأكراد تحتاج إلى بنية جديدة وتصميم جديد وعناصر فاعلة جديدة. وإنه يتوجب على العملية أن تتعلم من إخفاقاتها، وينبغي عليها أن تقيم البنية الجديدة على أساس من الدروس المكتسبة من الإخفاقات السابقة وإعادة النظر في الافتراضات التي تقوم على دليل.
*
غالب دالاي: مدير البحث في منتدى الشرق وزميل متخصص في الشؤون التركية والكردية لدى مركز الجزيرة للدراسات.
(عن ميدل إيست آي- ترجمة خاصة لـ"عربي21")