غالبا ما تبرر النخب السياسية المؤدلجة، قومية ويسارية، مواقفها من الإسلاميين بالتشكيك بمدى إيمانهم وقبولهم الصادق والمخلص بالديمقراطية.
بالطبع، هذه المخاوف مشروعة، وهناك أسئلة عميقة وجوهرية عن مدى إيمان الإسلاميين بالديمقراطية. والسؤال الأكثر أهمية من ذلك هو عن مدى إدراكهم لمعنى
الديمقراطية ومفهومها؛ إذ يقصرونها على صندوق الاقتراع أو حكم الأكثرية، فيما الديمقراطية أعمق من ذلك بكثير، في فلسفتها وقيمها وآلياتها ومضمونها.
لكن في مقابل هذه الهواجس النخبوية العلمانية بشأن "مصداقية قبول الإسلاميين" بالديمقراطية، لا نجد السؤال نفسه عن الطرف الآخر، العلماني! فالتجارب القومية واليسارية في العالم العربي والغربي على السواء، لا تبشّر بالخير أبدا، ولا تمنحنا أي ضمانة حقيقية بأنّ هذه النخب تؤمن بالديمقراطية وتحترم التعددية وتداول السلطة وتقبل بالرأي الآخر. على النقيض من ذلك، كل ما بين أيدينا من أدبيات وخطابات وخبرات سياسية، يشير إلى أنّنا أمام أفكار شمولية إقصائية تقف عادة في الخندق المقابل للديمقراطية، أو في أحسن الأحوال تقبل بالتضحية بالقيم الديمقراطية بذرائع وحجج واهية!
الشاهد الحيّ المؤلم على هذا مواقف النخبة العربية من الديمقراطية، أو إن شئنا الدقة والصراحة خيانة النخبة العربية للقيم الديمقراطية وطموح الشعوب بالحرية والتحرر. فمواقف هذه النخب من الثورات الشعبية العربية السلمية، انقسمت إلى طيفين.
الطيف الأول، وقف مبدئيا ضد الثورات الشعبية العربية، بعدما كان قد أيّدها ضد نظامي حسني مبارك في
مصر وزين العابدين بن علي في تونس. لكن، لما وصلت الاحتجاجات للنظام السوري، تحديدا، والذي يمثّل في نظرها الحصن الأخير لحزب البعث والقوميين واليساريين، قلبت هذه النخب ظهر المجنّ للربيع العربي، وأعادت تعريفه بأثر رجعي بوصفه مؤامرة أميركية صهيونية لإعادة ترسيم خريطة المنطقة.
أما الطيف الثاني، فيتشكل من النخب التي أيدت الثورات الشعبية والديمقراطية العربية وسارت في ركابها، وبعضها كان له دور كبير وفاعل ومهم في نجاح هذه الثورات والتنظير لها، ودفع فاتورة كبيرة لوقوفه ضد السلطة في مرحلة الدكتاتورية والقمع. لكن، بعدما شهدت التحولات الديمقراطية الوليدة في مصر وتونس والمغرب ودول أخرى، نجاحا كبيرا للتيارات الإسلامية عبر صناديق الاقتراع، أعاد شطر كبير من هذه النخب السياسية العربية تدوير مواقفه -بذريعة حماية المكتسبات العلمانية المدنية، والخشية من أسلمة الحياة السياسية وأخونة الدولة- ليقف مع الثورة المضادة ويؤيد حكم العسكر والانقلاب ضد الديمقراطيات، وتأييد الأجندة الإقليمية العربية المحافظة التي انتفضت مؤخرا بدعوى الوقوف ضد التيار الإسلامي، فيما الأجندة الحقيقية لهذه الدول هي التخلّص من "الربيع العربي"، وإيقاف هذا القطار حتى لا يصل إلى دول أخرى في المنطقة!
المعضلة لم تقف عند حدود استغلال العسكر لهذه النخبة المصرية تحديدا في تبرير الانقلاب، بل تجاوزت ذلك إلى النخبة العربية عموما؛ إذ وجدنا شريحة واسعة أيدت تلك الخطوة بالذرائع نفسها، وتحت تأثير وجود أشخاص مثل البرادعي وحمدين صباحي (اليساري) في جوقة الانقلابيين، فسارعوا إلى تأييد ما سميت ثورة "30 يونيو" و"انقلاب 4 يوليو"؛ بوصفهما تصحيحا للمسار الديمقراطي وتخليصه من القوى الانقلابية!
بيت القصيد، كما نتحدث عن أخطاء الإسلاميين ونطالبهم ببيانات واضحة لتصفية الحساب مع المرحلة السابقة، وضمانات بعدم ارتكاب الحماقات نفسها؛ فإنّ النخبة السياسية العربية التي تريد الاندماج مرّة أخرى في قطار التحرر الديمقراطي مطالبة أكثر من الإخوان باعتذار عن مواقفها، وبضمانات منها قبول الديمقراطية حتى وإن كانت النتيجة فوز الإسلاميين، إذا التزموا بقواعدها وأصولها ونتائجها!
(صحيفة الغد الأردنية)