في الخامس من يونيو عام 1967 اندلعت الحرب بين
مصر وإسرائيل، وتوالت أخبار الانتصارات التي تحققها القوات المصرية وإسقاط مئات الطائرات الإسرائيلية من إذاعة "صوت العرب" والصحف المصرية.
لكن على الجانب الآخر، كانت الصحف والإذاعات الأجنبية تقول العكس، وتتحدث عن تقدم إسرائيلي كبير في سيناء، وانسحاب جماعي للقوات المصرية، بعد أن ضربت المطارات العسكرية بالكامل، وأصبحت السيادة الجوية لإسرائيل.
لكن الإعلام المصري صور الإعلام الأجنبي باعتباره جزءا من المؤامرة الغربية على مصر، وحذر من الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية أو تصديق أخبارها، حتى جاء خبر الهزيمة مدويا في نفوس المصريين.
وفي الأول من يوليو عام 2015، شن تنظيم "ولاية سيناء" التابع لتنظيم الدولة الإسلامية هجوما واسعا هو الأكبر من نوعه على عدة كمائن للجيش المصري في سيناء، وتوالت الأخبار عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، وإبادة جميع الجنود المصريين المتواجدين في كميني "الرفاعي" و"السدرة". ونقلت المصادر الأمنية والطبية لمراسلي الصحف والفضائيات ووكالات الأنباء عن خسائر كبيرة لحقت بالقوات المتواجدة، ونشرت جميعها مقتل ما لا يقل عن 64 جنديا وضابطا مصريا، بما فيها
الصحف المصرية الرئيسية.
لكن عند نهاية اليوم، حدث تغير كبير في لهجة الإعلام المصري، بعد صدور بيان القيادة العامة للقوات المسلحة، الذي أكد مقتل 17 جنديا وضابطا في المعارك مع تنظيم ولاية سيناء، مقابل قتل 100 مسلح من تنظيم ولاية سيناء، رغم أن بيان المتحدث العسكري في بداية الاشتباكات أكد أن أعداد مقاتلي التنظيم لم تتجاوز 70 مسلحا.
نتج عن هذا الهجوم تراجع الصحف المصرية، والتزامها بما ورد في بيان الجيش، بل وشاركت في الحملة على الإعلام الأجنبي واتهمته بالتآمر على مصر، كما صدر بيان الأمين العام للأمم المتحدة الذي أدان فيه الهجمات، متحدثا عن مقتل 70 من الجيش المصري.
"5 أخطاء مهنية وقعت بها الصحف الأجنبية في تغطية أحداث سيناء" هكذا عنونت صحيفة "الوطن" المصرية إحدى تقاريرها، بعد الهجوم الذي شنه المتحدث العسكري باسم الجيش المصري على الإعلام الأجنبي، واتهامه بالتآمر على مصر، والمبالغة في أعداد قتلى الجيش في معركته الأخيرة مع تنظيم "ولاية سيناء".
عند قراءة التقرير يتضح أن الصحيفة ترى الاعتماد على مصادر مجهلة يمثل مشكلة مهنية، لكن الصحيفة لم تخبرنا كيف ترى هذا الأمر مشكلة، وهي التي تعتمد في معظم موادها التحريرية على نفس المصادر المجهلة أيضا، وقد كانت الشائعات التي نشرتها الصحيفة ضد مرسي والإخوان في عهدهم تعتمد كليا على مصادر مجهلة، سواء كانت "مصادر عسكرية" أو "مصادر سيادية" أو غيرها من المصادر، بل إن معظم الصحف المصرية تعتمد في أخبارها على نفس النوع من المصادر، فلماذا أصبحت المصادر المجهلة جريمة مهنية الآن بعد هجوم الجيش؟
من بين الدروس التي تعطيها الوطن أيضا للإعلام الأجنبي، انتقاد تجاهل الأخير للبيانات الرسمية، رغم أن هذه البيانات كانت غائبة تماما حتى مساء اليوم، كما أن الوطن نفسها لم تحاول الحصول على تصريحات من الجهات الرسمية عن تطورات اليوم، واكتفت بالنقل من الإعلام الأجنبي الذي تنتقده الآن.
والمفارقة أن صحيفة الوطن نفسها نقلت أخبارا يمكن اعتبارها مبالغة وتدخل في إطار "المؤامرة" على الجيش، إذا تبنينا وجهة نظر المتحدث العسكري، فقد نشرت أخبارا عن مقتل 70 ضابطا وجنديا مصريا في المعارك، كما أكدت مقتل جميع أفراد كمين "الرفاعي" بالشيخ زويد أثناء المعارك، ولم تتهم الصحيفة نفسها بالمشاركة في المؤامرة.
قد يقول قائل إن الصحيفة لم تنشر معلومات خاصة بها، وإنما نقلت من قناة "سكاي نيوز" الفضائية التي قالت هذا الكلام، لكن هذا الرد يزيد من مسئولية الصحيفة وليس العكس، فهذا الأمر معناه أن صحافييها لا يتمتعون بالكفاءة ولا امتلاك المصادر الكافية للحصول على المعلومات عما يحدث في سيناء، كما أن هذا يعني أيضا غياب شفافية المعلومات عن الأحداث هناك، والتعتيم الذي يمارس من قبل الجيش وغياب أي بيانات رسمية طوال ساعات المعارك، مما اضطر الصحف المصرية إلى النقل من وسائل إعلام أجنبية، وقد كان حري بالصحيفة أن تنتقد المتحدث العسكري وبياناته المتأخرة، وكذلك التعتيم على ما يحدث وعدم السماح لمراسليها بنقل المعلومات، بدلا من الاشتراك في الهجوم على الإعلام الأجنبي.
ورغم أن تقديرات أعداد القتلى جاءت من وسائل إعلام مثل "سكاي نيوز" و"أسوشييتد ببرس" و"رويترز" إلا أن الشئون المعنوية للجيش المصري تركت كل هؤلاء، وهاجمت قناة "الجزيرة" واتهمتها بالوقوف وراء هذه المؤامرة، وبالمبالغة في تقدير أعداد القتلى، ومعاونة "الإرهابيين" في إطار ما سمي "حروب الجيل الرابع" من خلال الترويج لشائعات تقول بأن الجيش تكبد خسائر كبيرة وأن المسلحين سيطروا على مدينة الشيخ زويد تمهيدًا لإقامة إمارة إسلامية. كما حذر المتحدث العسكري من نشر بيانات وكالات الأنباء العالمية عما يجري في مصر.
كل هذا رغم أن الجزيرة لم تنشر أي تقديرات لأعداد القتلى إلا نقلا عن صحف ومواقع إخبارية مصرية، أو نقلا عن وكالات أنباء أجنبية استقت معلوماتها من مصادر عسكرية من داخل الجيش المصري نفسه، فإذا كان الجيش أخطأ في تقدير أعداد القتلى منذ البداية، فعليه أن يراجع نفسه، لا أن يهاجم الإعلام. حتى إن الجزيرة امتنعت عن بث خبر يفيد بأسر جنود مصريين نشرته وكالة "أسوشييتد برس" الأمريكية.
أما عن الصحف المصرية، فقد قدرت صحيفة "الشروق" أعداد القتلى ب64 قتيلا، وصدر العنوان الرئيسي لصحيفة "اليوم السابع" المصرية متحدثا عن نفس الرقم من القتلى، ولم تنقل أيهما هذه الأرقام من الجزيرة بالطبع، ومع ذلك كان الهجوم على الأخيرة لاستكمال شيطنتها لدى الجمهور المصري، بالإضافة إلى صعوبة إقناعه أن وسائل إعلام مثل رويترز وأسوشييتد برس وسكاي نيوز تشترك في مؤامرة على مصر، فكانت الجزيرة هي الحل الأسهل والمتاح.
صحيفة اليوم السابع أعلنت بدورها عن مبادرة منع نشر أخبار وكالات الأنباء والمحطات العربية والأجنبية عن عمليات الجيش بسيناء قبل صدور بيانات رسمية من الشئون المعنوية والمتحدث باسم القوات المسلحة.
كنت مستعدا أن أتفهم ما تقوله اليوم السابع على مضض، ليس فقط لأنها إحدى أكثر الصحف تلفيقا ونشرا للأكاذيب منذ الانقلاب العسكري، وليس لأنها مجرد منفذ للأوامر، بل لأنها وقعت في نفس "الفخ" الذي كانت تحاول التحذير منه لخدمة أغراض السلطة، عندما تحدثت عن 64 قتيلا على صدر صفحتها الرئيسية في اليوم التالي كما سبق أن أوضحنا.
بعد إعلان الجيش المصري "انتصاره" في المعركة، انهالت الأخبار والتقارير عن الخسار الضخمة في صفوف تنظيم ولاية سيناء، ومقتل المئات منهم، وأنهم يشكلون جيشا نظاميا مثل إسرائيل مثلا، في مشهد يعيد إلى الأذهان أداء الإعلام المصري أثناء نكسة 1967 ورغبته في إخفاء حجم الكارثة.
أما عن أداء المتحدث العسكري نفسه، فحدث ولا حرج، فقد نشرت صفحته الرسمية على موقع "فيس بوك" 72 صورة لمن قال إنهم جثث مسلحي التنظيم بعد مقتلهم، لكن اتضح بعد التدقيق فيها أنها لمجموعة محدودة من الأشخاص لم يتجاوزوا العشرين، لكن بعد التقاط صور لهم من زوايا مختلفة.
وأكد "علي كمال جاد" ابن عم الجندي "عماد سعد محمد" الذي قتل في الهجوم الأخير، أن المتحدث العسكري نشر صورة جثة ابن عمه باعتبارها جثة لأحد مسلحي تنظيم ولاية سيناء.
وفي ظل تضارب المعلومات وتقدير الأعداد، وانعدام الصور القادمة من سيناء، ينتظر كثيرون إصدار تنظيم ولاية سيناء عن العملية ليعرف ما حدث بالضبط، حيث يشتهر عن التنظيم قيامه بتصوير كافة عملياته على أرض المعركة.
وشهدت التغطية الإعلامية كذلك تناقضا كبيرا عند الحديث عن المسئول عن الهجمات، وتنوعت بين الحديث عن تورط أجهزة مخابرات أجنبية مثل الموساد، ودول مثل تركيا وإيران، وحركات مثل حماس، ووصل التناقض إلى أن بعض الخبراء الاستراتيجيين جمع بين هذه الكيانات وأكد اشتراكها جميعا في المؤامرة. لكن ظل الجانب الأكبر من الاتهامات موجها لحركة حماس، التي استمر التحريض الإعلامي ضدها، ونشرت وسائل إعلام أخبارا عن تنسيق بين الحركة وتنظيم ولاية سيناء لشن الهجمات.
"ناصرية بلا ناصريين" هكذا شبهت "منى أنيس" رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي ما يحدث على الساحة بعد هجمات سيناء، إذ يتم تصوير أي خبر مختلف عما تقوله المصادر الرسمية باعتباره عميلا وجاسوسا، وهو نفس ما كان يحدث أثناء العهد الناصري، لدرجة أنها فكرت في الإبلاغ عن والدها عندما أخبرها أن الجيش المصري مهزوم، في الوقت الذي كان المذيع "أحمد سعيد" يبشر المصريين بقرب دخول تل أبيب.
يحاول النظام المصري إذن تحويل دفة المعركة، من محاربة التنظيمات المسلحة في سيناء، إلى محاربة الإعلام واتهامه بالمسئولية عن التقصير الفادح والمتكرر في أداء القوات المسلحة في سيناء، والتأخر في إرسال الدعم الجوي والبري لعدة ساعات بعد بداية المعركة، وهو ما عبر عنه المتحدث العسكري بوضوح، عندما تحدث عن أن الجيش كان يخوض معركتين، واحدة على جبهة القتال، والثانية ضد وسائل الإعلام.
أما عن الهدف الأبعد من وراء إعلان الحرب على الإعلام، فهو تجاهل الحديث عن أي مسئولية لرأس النظام المصري عبد الفتاح
السيسي، رغم أن نفس الإعلام كان يهاجم مرسي بشراسة عند وقوع أي قتيل في أي شبر من أرض مصر، وكان المذيعون يجلسون في الاستوديوهات وكأنهم يلقون خطبا سياسة، تتهم مرسي بكل الاتهامات الممكنة، وأن دماء الشهداء في رقبته، بل وتخطى البعض ذلك إلى اتهامه بالتنسيق مع الجماعات المسلحة ضد الجيش.
إذن ليست هناك مسئولية أو اتهام بالتقصير يمكن أن نتهم به الجيش، وإنما يجب أن نلوم الإعلام فقط، والمدهش أن الإعلام المصري وافق على هذا الكلام وبدأ في الحديث بنفس النبرة، حتى لو كان الهجوم يعني الهجوم على نفسه والانتقاص من مصداقيته.