...والبداية تتعلق بوهم ما يثار اليوم عن انطلاقة جديدة ونشيطة للسياسة الأمريكية لمعالجة ملفات الشرق الأوسط، في حال تحرر الرئيس
أوباما من عقدته
الإيرانية ونجح في إبرام الاتفاق النووي مع طهران.
في ما مضى، واستنادا إلى خلفيته الدينية والعرقية، راهن الكثيرون على أن يكون الرئيس أوباما مختلفا، وأن يربح العالم نصيرا قويا للمظلومين وداعما جديا لحقوق
الفلسطينيين، وحينها لم يجرؤ أحد على الطعن بصدقية دعوته "لحل الدولتين" في فلسطين، بل كبر الرهان على إمكانية تنفيذ هذه الدعوة بعد إعلان عزمه إزالة ما يعترضها من صعوبات خلال سنوات حكمه، وعزز هذا الرهان ما كان يرشح من عدم رضا النخبة
الإسرائيلية عن أوباما، ومن خلافات بين برنامجه الانتخابي وسياسات تل أبيب حول عدد من القضايا، أهمها إصراره على تحريك العملية التفاوضية الإسرائيلية الفلسطينية.
أن ينتخب رئيس أمريكي على الضد من السياسة التدخلية لسلفه جورج بوش ويكون عنوان حملته الانتخابية سحب القوات العسكرية الأميركية من العراق وأفغانستان، هو أمر خلق رهانا على دور خاص لهذا الرئيس في الدفاع عن قيم الحرية وحقوق الإنسان ليس بوسائل الحرب بل بأساليب سلمية تنسجم مع جوهر الفكر الديموقراطي، وأكد هذا الرهان خطابان ألقاهما أوباما أمام نخب سياسية وثقافية وعلمية في مصر وتركيا، تضمنا دروسا عن أولوية الثقة بالإنسان واحترام حقوقه، وعن عهد جديد لإدارة الصراع تنسجم فيه الغايات مع الوسائل والأقوال مع الأفعال!
ثم تغذى الرهان على دور متميز لأوباما مع انطلاق ثورات الربيع العربي حيث بدا وكأن الفرصة جاءته على طبق من ذهب كي يضع أفكاره السياسية موضع التنفيذ، إن لجهة دعم الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة وإن لجهة منع أدوات القمع والتنكيل السلطوية من إجهاضه، والكل يتذكر كم شحنت النفوس إشادة أوباما بالربيع العربي وبالثورة المصرية وبأن ما حصل في ميدان التحرير سيكون نموذجا ومأثرة تاريخيين لكل الشعوب في نضالها من أجل حريتها.
ولا ننسى كيف راهن الكثيرون على تدخل قوي لأوباما في أحداث المنطقة في حال أعيد انتخابه رئيسا، وإرجاع سلبيته وتردده إلى اضطراره مغازلة مزاج الناخب الأمريكي الذي لا تعنيه الأحداث العربية طالما لا تمسه مباشرة الذي يرفض تحويل الاهتمام عن مشكلاته الداخلية لمصلحة دور خارجي لا يزال يدفع ثمنه من شروط حياته وعافية اقتصاده.
قالت الوقائع كلمتها، ومثلما أخفقت الرهانات السابقة على أوباما سوف يخفق الرهان على دور جديد ونشيط للبيت الأبيض في المنطقة بعد توقيع الاتفاق مع إيران، فالسياسة الأمريكية لا تتعلق برئيس مهما كان تأثيره، بل بمؤسسات متكاملة تخدم خطة استراتيجية تفرضها الوقائع والتوازنات الملموسة لحماية المصالح الآنية والبعيدة وتنميتها، ويجتهد أن تكون أقل تكلفة وأكثر جدوى وإرضاء لغالبية الأمريكيين، وإن على حساب الآخرين والشعارات الديموقراطية التي تتغنى واشنطن بها.
هي حسابات المصالح تطل برأسها وتطغى على القيم الأخلاقية والمبادئ، والقصد أن الرئيس الأمريكي، أيا كان منبته أو انتماؤه، وأيا كانت خطاباته واجتهاداته في اختيار التكتيك وآليات التنفيذ، محكوم بتخديم هذه المصالح والالتزام بالاستراتيجية العامة، التي تدعو اليوم، ردا على المخلفات السلبية للحروب، إلى منح الأولوية للوضع الداخلي وعدم التورط عسكريا في صراعات خارجية واعتماد وسائل الضغط المرن وآليات العزل والمعاقبة بإجراءات دبلوماسية واقتصادية، وبتسخير المؤسسات الأممية ومبادراتها لمعالجة الأزمات الإقليمية، ويمكن عند الضرورة تشكيل تحالفات عسكرية دولية عريضة لدرء الأخطار المستجدة.
ومن قناة هذه الاستراتيجية يمكن النظر إلى استمرار شعبية أوباما في بلاده وإلى اتفاق محللين أمريكيين على أنه من أفضل الرؤساء الذين خدموا مصلحة وطنهم، حتى لو اعتبره آخرون مثاليا أو غارقا في أحلامه أو رجلا مترددا وضعيف الإرادة.
لم لا؟! ألم ينجح أوباما في سحب القوات الأميركية من مستنقع الاستنزاف في العراق؟! وألم يكشف في تردده وسلبيته مدى حاجة بؤر التوتر لموقف وإرادة أميركيين؟! ثم ألم يتمكن من تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي خلفتها سنوات الحروب، وينجح في نقل ميدان المعركة مع الإرهاب الجهادي إلى الخارج، محققاً نتائج لافتة في النيل من بعد، وعبر الضربات الجوية، من أهم كوادره وقادته؟!
وفي المقابل، متى كانت الولايات المتحدة لتعبأ بسمعتها الأخلاقية، أو بتلك الإشارات عن حالة الفصام بين شعارات أوباما عن الحرية والعدالة وبين سياساته المبنية على المصالح الخاصة والأنانية؟! وتاليا من غير مجتمعاتنا تعيب عليه مقايضته ثورات الحرية والكرامة بالتواطؤ مع أنظمة الاستبداد تحت عنوان محاربة الإرهاب؟! ثم ماذا يمكن أن يقال حين توسم قدرة أوباما على ضبط النفس تجاه ما يحل بالشعوب العربية من فتك وتنكيل وخراب، بصفات الشخصية الذكية والحكيمة؟!
هو أمر مفهوم، تكرار الرهان على أوباما بما هو رهان على دور أمريكي مؤثر في الأزمات وبؤر التوتر، ويمكن أن يحدث تحولا نوعيا في مجرى الصراعات الوطنية والإقليمية، لما تملكه الولايات المتحدة، من قوة نافذة، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لكن ما ليس مفهوما أن يتم الاستسلام لهذه الرهانات الواهمة والانتقال من إخفاق إلى آخر، وتاليا إغفال طريق الخلاص الناجعة لانتشال مجتمعاتنا من أزماتها، ولإجبار واشنطن على بناء سياسة شرق أوسطية لا تستهتر بالمظالم والحقوق العربية.
والحال ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم لا يقف عند تفعيل المبادرات الذاتية لرد الأخطار والتعديات، أو فتح الأبواب على بدائل منافسين لواشنطن، بل عملية سياسية وثقافية كبيرة وشاقة تطلق آفاقا جديدة لمصلحة إعلاء شأن الحياة والحرية والإنسان بوصفه المحرك الرئيسي لكل تحد وتطور، وتتجه تاليا لتقوية ثقة البشر بأنفسهم وبجدوى دورهم في مواجهة غطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة والعنف!