قبل أيام، مرت علينا ذكرى 24 حزيران/ يونيو 2012، وهو اليوم الذي تم فيه إعلان انتخاب أول رئيس مدني في مصر بشكل ديمقراطي حر ونزيه.. يوم لن ينسى في تاريخ مصر الحديث.
لهذا اليوم عندي ذكرى خاصة أخرى. فقد وفقني الله بالتعاون مع زملائي النواب في أول برلمان حر منتخب أن اقترحت مشروع قانون يضمن لمصر أن تختار رئيسها بشكل حر ونزيه ومباشر، ويتغلب على عقبة المادة 28 من إعلان آذار/ مارس 2011 الدستوري، وتفريغ هذه المادة من أي من احتمالاتها السلبية، والإبقاء على ما لها من إيجابيات، حيث كانت تقضي ببقاء قرار إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في يد شخص واحد هو رئيس اللجنة العليا للانتخابات، دون أحقية الطعن على قراره وهو المعين من قبل المجلس العسكري آنذاك. تأتي له الأرقام من صناديق، بالطبع بعد مرورها بـ "خلاطات التزوير" دون رقابة حقيقية، لينتظر الجميع مصيرهم المرهون بفساد منظومة أتت بهذا الشخص في هذا المنصب لإعلان نتيجة على المقاس المطلوب.
لم تكن أسماء المرشحين قد أعلنت بعد حين تقدمت بمشروع القانون، لكنني كنت على يقين أن المجلس العسكري الذي كان يقتل إخواننا المصريين أثناء الفترة الانتقالية في "محمد محمود" و"ماسبيرو" ومحيط مجلس الوزراء وستاد بورسعيد حتما يبيت مرشحا سيدعم، وتدعمه دولة مبارك، وكان التحدي هو حفظ إرادة المصريين الحرة بعد ثورتهم العظيمة.
كان الرهان على استحالة أن يكون كل القضاة -الآلاف من القضاة الذين يشرف واحد منهم على كل صندوق انتخابي- يستحيل أن يكون معظم هؤلاء مزورين.. بل العكس، حتى وإن أرادوا أن يكونوا كذلك أو مورست عليهم ضغوط وظيفية، فإنهم لن يستطيعوا. فإذا كانت هناك رقابة من مندوبي المجتمع المدني بخلاف مندوبي المترشحين ووسائل إعلام أمام كل منهم بكل حرية، وأصبح كل منهم ملزما بأن يفتح صندوقه ويقوم بفرز الأصوات أمام هذا الجمع الحضور، بل ويعلن نتيجة رسمية أمامهم ويوقع عليها ويسلم نسخة منها أيضا لكل مرشح.. لو فعل كل القضاة هذا في آن واحد متزامن.. فالنتيجة حتما ستكون إرادة الشعب الحرة. ولن يفلح بعدها رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية ولا المجلس العسكري ولا كل خلاطات فساد دولة مبارك ولا الأجهزة السيادية وغير السيادية في أن يفعلوا شيئا. فالسيد هنا يجب أن يكون هو صوت المواطن المصري.
أقر البرلمان مشروعي المقترح وتم إصدار القانون بعد أن ناقشته في لجنة المقترحات والشكاوى ثم اللجنة التشريعية ثم أقر بأغلبية الأصوات في اللجنة العامة.. وأذكر بكل الخير حينها المستشار الجليل المناضل رئيس اللجنة التشريعية آنذاك المستشار الخضيري -فك الله أسره- الذي ذلل كل العقبات هو ورئيس أول برلمان منتخب بنزاهة وديمقراطية الدكتور محمد سعد الكتاتني -حفظ الله روحه ودمه من الظالمين- المحكوم عليه بالإعدام من سلطة الانقلاب العسكري. كما أذكر بكل الخير النائب المحترم محمد العمدة الذي انضم لمشروع القانون الذي تقدمت به، وأثناء مناقشته باللجنة التشريعية أضاف عليه بمقترح من عنده وتبناه معي.. كما أذكر بكل الخير جميع الزملاء النواب الذين أيدوا وصوتوا للمشروع.. ماعدا نائبين هاجماني بضراوة واتهماني بالعمالة للمجلس العسكري حينها.. وعلى رؤوس الأشهاد في اللجنة التشريعية حتى بت لا أفهم بأي منطق يتحدثان؟! .. لدرجة جعلت صحف اليوم التالي لانعقاد هذه الجلسة في مقر اللجنة التشريعية للبرلمان يتصدرها خبر شجارهما في اجتماع اللجنة -رحم الله أحدهما - النائب أبو العز الحريري فهو في ذمة الله - والنائب ممدوح إسماعيل الذي اعتذر لي بعدها حينما درس وعلم مغزى القانون الجديد وانتهى الأمر.
بالطبع لم يوافق ممثل وزارة العدل أثناء مناقشته معي في لجنة المقترحات والشكاوى على المشروع بل رفضه بشدة - ولا عجب أن تجده الآن أحد أهم ترزية التشريعات لسلطة الانقلاب العسكري، فقد تمت ترقيته مساعدا لوزير العدل لشؤون التشريع وصياغة ترسانة الفرمانات العسكرية "القوانين" المكبلة للحريات والمرسخة للاستبداد والفساد منذ الثالث من يوليو وحتى الآن المستشار/ عمر الشريف. كما لا عجب أن نرى معظم من عارضوا مشروع القانون أثناء التصويت عليه حينها من طليعة مؤيدي الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013.
المصريون كانوا يتابعون شاشات التلفاز لحظة بلحظة.. وكاميرات الفضائيات في مصر والعالم تتناقل نتيجة الانتخابات الرئاسية صندوقا بصندوق ولجنة بلجنة. لحظة من الاعتزاز بالذات المصرية أن يجد المواطن المصري صوته هو وفقط الحكم في اختيار حاكمه.. الكل مشدوه وهو يتابع تغير المنحنيات الإحصائية لنتائج المترشحين ولا أحد يعلم لآخر لحظة من هو الفائز بثقة الشعب المصري إلا مع إغلاق فرز وإعلان نتائج آخر صندوق. المتابع لهذه الفترة، وما بعدها مازال يذكر الترقب وسط أجواء مشبوهة بمحاولات كثيرة جرت لتزوير أصوات المصريين بعد انتهاء عملية التصويت والفرز وإعلان نتائج اللجان الفرعية لصالح مرشح المجلس العسكري، ودولة مبارك الفريق "المعتمر! " أحمد شفيق.. لم تفلح كلها وكيف تفلح وكل مرشح يملك نتيجة كل لجنة بيده ممهورة بتوقيع قاض ومختومة بشعار الجمهورية بعد أن يعلنها كل قاض على حدة على الزملاء.. وبناء على هذه النتائج أعلنت حملة الرئيس محمد مرسي النتيجة التي تحصلت عليها بعد ساعات من انتهاء فرز وإعلان آخر صندوق ونشرت صورا ضوئية من نتائج كل اللجان على مواقع التواصل الاجتماعي. الأهم من المتنافسين، هو أن 90 مليون مصري ومئات الملايين في العالم شاهدوا النتائج على الهواء مباشرة. فمن يستطيع التزوير الآن ليواجه كل هؤلاء.. سواء بالجمع العشوائي أو إتلاف البطاقات.. أو أو أو.. من كل الطرق الفاسدة التي ألفتها دولة مبارك.
اليوم وبعدما أستعرض الأحداث التي مرت في العامين التاليين لانقلاب 7/3، وكما ذكرّني صديق مصري عزيز قابلته بفرنسا الأسبوع قبل الماضي وهو يقدمني للكلمة في مؤتمر خاص بمناهضة أحكام الإعدام الجماعية المسيسة في مصر ضد المئات، ومنهم الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي، بدأ صديقي العزيز يعرّفني كأحد أسباب الانقلاب في مصر؟! فمن وجهة نظره اللاذعة السخرية على المسار الديمقراطي المأسوف عليه في مصر، انتخبت مصر رئيسا بشكل ديمقراطي حر ونزيه.. بشكل وآليات استعصي على المجلس العسكري ودولة مبارك تزويرها لحساب مرشحهم.. فانقلبوا على الرئيس المنتخب لاحقا وبعد عام واحد لأنه لا يمثلهم.
إن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 ليس نهاية هذه الثورة.. بل فصل أسود في مجلداتها الناصعة التي سطرتها.. ومازالت تسطرها إلى الآن في ملحمة ثورية باسلة.. طليعة شابة حرة عصية على الانبطاح لجمهورية الاستبداد والفساد.. تسعى لطي هذا الفصل الأسود، لتستكمل فصولاً أخرى أكثر إشراقا.
إن إرادة الشعوب الحرة الأبية لا تموت.. وإرادة الله من فوقها مؤيدة لها طالما سعت لتحقيق العدل والحرية والمساواة بين الناس. لذلك لم ولا يساورني شك لحظة في أن مصر الحرة.. مصر العدل والحرية.. مصر إرادة الشعب وليست تسلط الفرد المستبد.. مصر المستقبل.. انطلق تأسيسها والتأريخ لها بالفعل منذ 25 يناير 2011. قد يعتري المسيرة عثرات وتحديات.. بل قل مذابح وأنهار دماء وجراح .. لكن لن يعود تقويم الوطن لما قبل هذا الميلاد الجديد. يقينا إن جيلا كره علقم الاستبداد والظلم والفساد والاستعباد.. عازم على استعادة الحرية والكرامة بعدما ذاق حلاوة أن يكون إنسانا.