كتب رضوان السيد: كان ذلك في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وقد تفاقم الاختلال في علاقة وليد جنبلاط بسوريا على مشارف وفاة الرئيس حافظ الأسد، وقد بدأ بشار يتولى زمام الأمور. كان جنبلاط (الذي صار زعيماً كبيراً أيام السوريين بلبنان أثر قتلهم لوالده كمال جنبلاط عام 1977)- يقصُّ قصته في العلاقة مع سوريا، والتي بدأت بعد أربعين يوماً على مقتل والده، وهو يعرف أنّ ضابطاً سورياً هو الذي اغتاله.
زار جنبلاط سوريا فقابل الجميع، وجلس معه حافظ الأسد طويلا، وأرسله إلى جبل الدروز والسويداء، وعندما وصل الخبر إلى الأسد أنّ محافظ السويداء لم يتصرف بالاحترام الواجب تجاه وليد بيك، سارع إلى عزله! وعلّق جنبلاط: إذا أطعتَ ودخلْتَ في تحالف الأقليات، فلك المنُّ والسلوى والشراكة في السلطة، وإن أبيتَ فأنت ميتٌ أو مهجَّر! لقد تذكرتُ هذا الحديث قبل ستة عشر عاماً مع جنبلاط بمناسبة أحداث إدلب والسويداء. فالميزان الذي وضعه حافظ الأسد للعلاقات مع الفئات السورية بالداخل، والفئات أو المذاهب والأديان والأقليات لم يتغير: تهميش السنّة المدنيين، وقتل من يتمرد أو نفيه، واحتضان السنة الريفيين استتباعاً دونما مشاركة في السلطة، والمنُّ عليهم كل الوقت أنهم سنةٌ رجعيون! أما الأقليات الإسلامية والمسيحية، فالنظام يعتبر نفسه حاميها وعليها القيام بأمرين: معاداة السنة المدنيين خصوصاً، والخضوع في مقابل المشاركة، واعتبار أنهم جزءٌ من التحالف الذي تقوده الطائفة العلوية، وهذان الأمران بالضبط لم يفعلهما كمال جنبلاط، ولذلك مات.
ونفس قصة وليد جنبلاط سمعتها من ثلاثة زعماء مسيحيين عبر عقدين من الزمن: إن تمردت ولم تخضع، فأنت ميت! أمّا إن خضعْتَ واعتبرتَ الجماعة سادتَك، فأنت معزَّزٌ مكرَّم، وإذا اشتدت الثقة فستصبح مثل لحود أو عون، باعتبارك تجاوزْتَ القنطرة. ورغم أن الوصول صعب، فإنّ الترك صعبٌ أيضاً، وبخاصة إذا جاء من جانب العلويين أنفسهم مثلما حصل لحسين الحسيني، والأفظع ما حصل لميشال سماحة. فحسين الحسيني أخطأ بمجاملة المسيحيين في انتخابات عام 1992، فكاد يهلك، ولم يعد إلى رئاسة مجلس النواب منذ ذلك الحين، إنما الفرق أنّ الشيعي الخائب لا يُقتل، بينما الآخرون جميعاً يُقتلون إذا اقتضت المصلحة ذلك.
إنّ لما حصل بإدلب والسويداء وجهين متناقضين، الأول هو حُمْق المسلَّحين الذين يتحججون بحجج واهية في قتل الناس واضطهادهم ومصادرة ممتلكاتهم. والوجه الآخر: خبث النظام السوري والتعامل مع ملف الأقليات من موقع الابتزاز أو العصا والجزرة. وقد حدث أن الدروز ما أرادوا التورط في المزيد من سفك الدم، لذلك ما لبَّى كثيرون منهم الدعوة للتجنيد الإجباري. وهذا فضلاً عن الإشكال مع إسرائيل بسبب وقوع مساكنهم على الحدود، عندما كان الخيار بين إسرائيل والنظام، ظل الخيار الأول هو سوريا رغم وجود دروز على الطرف الآخر، لكنهم يقعون اليوم بين ثلاثة أو أربعة جيران: ِإسرائيل والمستوطنون والسوريون المعسكِرون، والميليشيات الإيرانية، وكتائب المسلحين المعارضين. ماذا يفعل الكهل المدني؟ في أول الثورة حمل سلاحه للدفاع عن نفسه. ثم تكاثرت عليه الفرق المسلَّحة فغادر إلى لبنان أو الأردن أو تركيا. وفي تركيا تحدثت لبعض مهاجري إدلب من الدروز وغيرهم، وقد عبَّروا عن مخاوفهم هنا في لبنان بطرائق أوضح. فالنظام لا يريد بهم خيراً، والتنظيمات المتطرفة لا توفّر فرصةً للحديث حول العدل والتحرير والوحدة الوطنية.
لقد طالت مدة الاستتباع، فلا ينبغي أن ننسى أنّ حكم «البعث» بدأ عام 1963 ونحن الآن في 2015، فهي نحوالثلاثة أجيال. وقد نسي الناس زمان نضالات الاستقلال، وزمان الديمقراطية القصير، وصارت الأمجاد ذكرياتن بل إنّ حافظ الأسد المهجوس بالتاريخ، كان يعيّر زواره بماضيهم وتاريخ آبائهم، كأنما هو وعائلته وطائفته المبرأون الوحيدون.
كل هذه الأمور صارت ركاماً في سوريا المهدَّمة، فهل الجميع نادمون على ما كان، مثل وليد جنبلاط؟ في هذا المعرض لا نسأل الشيعة لأنهم شركاء في المشروع، لكنّ الجنرال عون ليس نادماً أيضاً!
(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية- الأحد 21 حزيران/ يونيو 2015)