كتاب عربي 21

لا مقارنة مع وجود "الفساد"

1300x600
"لو عادت الأمور إلى الوراء فلن أكرر ما فعلت". بهذه الجملة المعبرة حاول رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس الخروج "سالما" من الأزمة السياسية التي يواجهها منذ أيام بعد إقدامه على التنقل عبر طائرة الفالكون الحكومية المخصصة له كرئيس وزراء إلى برلين، لحضور نهائي دوري أبطال أوروبا بين ناديي البارصا واليوفي. 

لم يكن فالس وحده في الرحلة، بل اصطحب معه نجليه باعتباره من مواليد برشلونة قبل هجرة عائلته إلى فرنسا التي صار رئيسا لوزرائها. جان ماري لوبن لا يكف بالمناسبة عن "معايرة" فالس بكونه فرنسيا مستجدا. الأصول الكاتالونية لرئيس الوزراء الفرنسي جعلته يغادر المؤتمر السابع والسبعين للحزب الاشتراكي، حيث تحدث عن الفوارق الطبقية وعن البطالة وعن الأزمة الاقتصادية دون الكف  عن تكرار عبارتي "لنفخر بما أنجزناه" و"لنفخر بالرئيس هولاند"، في رحلة كلفت الخزينة الفرنسية ما يقارب العشرين ألف يورو، وهو ما جر عليه استهجان أحزاب اليمين وتذمرا من عائلته السياسية التي لم تكن في حاجة إلى "فضيحة" من هذا النوع، خصوصا الرئيس فرانسوا هولاند المنادي منذ توليه سدة الرئاسة باعتماد "النزاهة الأخلاقية" منهاجا. فالس، وبعد تخبط وتبريرات سياسية متناقضة اضطر إلى الاعتراف بخطئه واستعداده لرد جزء يسير من المبلغ تعويضا لرحلة نجليه التي أظهرت استطلاعات رأي أن 77 بالمائة من الفرنسيين "مصدومون" بسببها.

هذا ما يقع للساسة، وزراء ومسؤولين ومنتخبين، حين تمتد أياديهم إلى المال العام تبذيرا على مصلحة شخصية أو سوء استخدام نتج عن ضعف كفاءة أو مغامرة غير محسوبة. أما في دولنا، فالمال العام مستباح ولا فرق بين جيوب المسؤولين وميزانيات الدولة، وزارات ومؤسسات عامة خدمية أو تجارية. في الغالب ما نسمع في مختلف دول العالم عن محاكمات لرجال سلطة، مهما علا شأنهم، لأسباب متعلقة بالمساس بأموال دافعي الضرائب إلا في الدول العربية حيث تتوالى تقارير كثير من المؤسسات الرقابية عن فضائح مالية يكون فيها سوء التدبير بسوء نية واضحا. لكن المؤسسات الحكومية المنوط بها تحويل الملفات إلى القضاء تظل متقاعسة عينها على التسويف والمماطلة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

في المغرب خرج علينا وزير العدل والحريات قبل شهور بعدم تحريك مسطرة المتابعة القضائية وتلقي الشكايات، ضد رؤساء الجماعات والمستشارين، إلى حين الانتهاء من الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مع تأجيل مجموعة من القضايا التي أنهت مصالح الدرك والأمن البحث فيها ضد بعض رؤساء الجماعات  باعتبار أن سنة 2015 سنة انتخابية، ولا يجوز بالتالي السماح باستغلال المتابعات القضائية لتصفية الحسابات السياسية، وأيضا لضمان حياد السلطة في هذا المجال. صحيح أن فرنسا، التي تشكل نموذجا يعتد به المغرب في كثير من قوانينه، لم تسلم أيضا من لعنة الحماية المتبادلة التي يقدم عليها أطراف اللعبة السياسية هناك، والمثال واضح في حالة برنار تابي ، الوزير والرئيس السابق لفريق اولمبيك مارسيليا، الذي استفاد من تدخلات على أعلى مستوى لاستعادة جزء من أملاكه المصادرة بعد سجنه وفقدانه لحقوقه المدنية والسياسية لسنوات على إثر قضايا فساد رياضي. برنار تابي مُنح أكثر من 400 مليون يورو نتيجة  قضية تحكيم بينه وبين مصرف "كريدي ليونيه"، وهو ملف عاد إلى مراحل التقاضي بسبب تحقيقات صحفية أفضت إلى اتهام كثيرين من بينهم وزيرة الاقتصاد السابقة كريستين لاغارد، التي ترأس اليوم "صندوق النقد الدولي"، بالرغم أن التهمة كيفت لصالحها لتصبح مجرد "إهمال".

في فيلم وثائقي قدمته قناة "أم 6" الفرنسية قبل أسبوعين طرحت السؤال عريضا عن تبذير المال العمومي بحماية السياسيين ولفائدتهم بالمقابل. هكذا بحث الفيلم عن التكلفة المالية لرؤساء الجمهورية السابقين مقارنة مع باقي البلدان الغربية. والنتيجة أن ساسة فرنسا حولوها لبقرة حلوب يتناوبون على استنزاف جيوب المواطنين الواقعين تحت وطأة نظام ضريبي قاس وأزمة اقتصادية حادة. انتهى الفيلم بنتيجة مثيرة أظهرت أن من لا يزالون على قيد الحياة من الرؤساء السابقين، وهم ثلاثة، يكلفون الدولة 6.5 مليون يورو سنويا لمجرد أنهم رؤساء سابقون. جيسكار ديستان الذي غادر الحكم منذ العام 1981 يستفيد سنويا من ميزانية تقدر بمبلغ 2.5 يورو، وهو الذي كلف الخزينة 94 مليون يورو منذ انتهاء مهامه إلى اليوم. أما جاك شيراك فيكلف الدولة 1.5 مليون يورو سنويا ونيكولا ساركوزي 2.2 مليون.

ليس مستغربا أن يحصل رئيس دولة سابق على معاش. لكن الإشكال في الموضوع الفرنسي أن معاش رئيس الدولة لا يتعدى 6 آلاف يورو حسب قانون منظم يعود للعام 1955. وأثناء ولاية الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، أصدر رئيس الوزراء لوران فابيوس سنة 1985 قرارا وزاريا على شكل رسالة موجهة للرئيس السابق جيسكار ديستان يحدد فيها مجموعة مزايا سيستفيد منها على حساب الدولة الفرنسية. 

القرار أو الرسالة لم يخضعا لأي نقاش أو موافقة برلمانية لكنها استمرت إلى اليوم كقانون يستفيد منه السابقون وينتظره اللاحقون. تنص الرسالة على أحقية الرئيس السابق في مقر للسكن والعمل مع سبعة مرافقين وسيارة خدمة بسائقين وغيرها من الامتيازات. يكلف كراء مقر عمل جيسكار ديستان أكثر من 25 ألف يورو، و19 ألف لساركوزي و16 ألف لشيراك. وحده واضعه فرانسوا ميتران لم يستفد من المخصصات حيث توفي شهورا قليلة بعد مغادرة الإليزيه.

لم يحدد القرار أية مدة معينة للاستفادة مما يجعلها مفتوحة إلى وفاة المستفيد. كما لا يمنع المستفيد من الجمع بين الميزات تلك والعمل في القطاع الخاص. لكن أهم ما يثير في الموضوع أن الرئيسين شيراك وساكوزي متابعان في قضايا فساد مالي وانتخابي، وهو ما لا يمنعهما من التمتع بالريع الرئاسي. كما أن الوضع الحالي لنيكولا ساركوزي، العائد إلى الساحة السياسية رئيسا لليمين ومرشحا محتملا لانتخابات الرئاسة القادمة، يطرح السؤال عن حدود استفادة العائلة السياسية التي يقودها من تمويل الدولة خارج ما تحدده القوانين. فساركوزي لا يكف عن التنقلات والاجتماعات والمهرجانات الخطابية بمعية فريقه المستفيد من المال العام حيث تدفع لمرافقيه ما بين 4 آلاف و7 آلاف يورو شهريا دون تمييز بين نوعية الخدمات المقدمة للرئيس السابق أو المرشح المحتمل.

فرانسوا هولاند، وفي بداية ولايته، وعد بتعديل القوانين دون القدرة على توقيف النزيف. فالطبقة السياسية في عمومها مستفيدة من هذه السيولة المالية المتدفقة دون "حسيب". رؤساء الوزارة أيضا يستفيدون من امتيازات عدة ليس أقلها ثلاثة مرافقين وسيارة خدمة. اديث كريسون لم تقض في منصبها كرئيسة وزراء في عهد ميتران إلا 11 شهرا ولا تزال "عالة" على الدولة منذ 22 سنة كاملة. وعندما سئل تسعة من نظرائها السابقين اعترف ستة منهم بالاستفادة من نفس النظام.

إلى فنلندا رحلت بنا كاميرا البرنامج الوثائقي لتتبع خطوات رجل بطول المترين يمشي وحيدا بالطرقات والأسواق كأي مواطن عادي. كان ذاك ماتي فانهانن الذي استمر رئيسا لوزراء البلاد سبع سنوات كاملة، ليفقد كل ميزات المنصب بمجرد خروجه من مقر رئاسة الوزراء. ماتي فانهانن أخرج من حافظة نقوده، والسعادة تعلو محياه، بطاقة مجانية لركوب الحافلة تشكل الامتياز الوحيد الممنوح له لا كرئيس وزراء سابق بل كعضو حالي بالبرلمان الفنلندي.

لكم حرية التمعن في الحالة العربية؛ فإذا ظهر المعنى فلا فائدة في التكرار، ولا مقارنة مع وجود الفارق.