جاءت نتائج الانتخابات التركية مفاجئة ليس فقط لأنصار حزب العدالة والتنمية، بل أيضا لمنافسيه الذين لم يتوقعوا أن يتراجع الحزب لهذه الدرجة -وإن كانوا يمنّون النفس بذلك-. فحزب العدالة والتنمية الذي لم يعرف خسارة منذ بدء مسيرته السياسية قبل ثلاثة عشر سنة، بل استطاع أن يحافظ على تصاعد في نسبة الأصوات التي يحصل عليها في كل انتخابات عن سابقتها، تراجعت نسبة الأصوات التي حصل عليها من 49.9% في الانتخابات العامة السابقة عام 2011 إلى حوالي 40.8% في الانتخابات الحالية، على الرغم من بقائه في المركز الأول بين الأحزاب المتنافسة.
عواملٌ كثيرة تقف خلف هذا التراجع الذي مني به الحزب، يبدو أوّل هذه العوامل ثِقلُ الثلاثة عشر سنة المتتالية التي قضاها الحزب في السلطة، فقد ألقت هذه السنوات الطويلة نسبيا في الحكم بظلالها الثقيلة على هياكل الحزب التنظيمية وحيويته، حيث تراجعت الحيوية بين أعضاء الحزب وأنصاره، الذين ركنوا إلى انتصاراتهم المتتالية، عما كانت عليه في الانتخابات السابقة.
من ناحية أخرى؛ فإن طول مكوث الحزب في السلطة قد حوّله إلى حزب سلطوي نسبيا، فأبناء الشارع التركي بدؤوا يستشعرون تحول الحزب إلى أداة للوصول الوظيفي، خاصة في السنوات الأخيرة التي شهد الحزب فيها مواجهة مع التنظيم الموازي دفعته للاعتماد على أبناء الحزب "الموثوقين" و"ذوي الولاءات"، الأمر الذي انعكس سلبا على صورة الحزب، التي كان قد رسمها للمواطن التركي من خلال تأكيده على قيم الشفافية والعدالة الاجتماعية وتساوي الفرص.
وما زاد الطين بلة تهم الفساد التي وجهت إلى عدد من وزرائه، التي وإن لم يخرج فيها حكم قضائي حتى الآن إلا أنه من المؤكد أنها قد تركت انطباعا سلبيا عن مسؤولي الحزب، وتحديدا لدى الشريحة المحافظة التي رأى قسم منها في عدم دعم الحزب في الانتخابات الوسيلة الوحيدة لإيصال رسالة اعتراض على سياساته وبعض رموزه.
كما أنّ استغلال الحزب من قبل بعض الوصوليين، خاصة مع تراخي وسائل الرقابة والمحاسبة داخل مؤسسات الحزب، ساهمت في تحول الحزب إلى حزب شبه نخبوي وفقدانه التواصل مع الشارع نسبيا، ما أفقده ميزته كحزب يعبر عن تطلعات كافة أبناء الشعب التركي، وقدرته على جسّ والتقاط نبض الشارع وتوجهاته، حيث كان من الواضح أن الحزب لم يوفق بتسمية مرشحيه على القوائم الانتخابية وخاصة في المناطق ذات الغالبية الكردية التي تراوح تراجع أصوات الحزب فيها عن الانتخابات الماضية من خمسة عشر إلى عشرين في المئة باختلاف المدينة.
على جانب آخر جاءت نتيجة تصرفات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبيل الانتخابات كالإصرار على التواجد في الساحات الانتخابية، وإطلاقه لتصريحات حادة نسبياً تجاه الفرقاء السياسيين وتأكيده المتكرر على ضرورة تحويل النظام السياسي إلى نظام رئاسي، على خلاف ما أريد لها. فرفع حدّة الخطاب السياسي دفعت بعض الناخبين بعيدا عن حزب العدالة والتنمية ولم تقربهم أكثر، كما أن الرئيس التركي لم يكن موفقا في بعض التصريحات الحادة نسبيا، حيث تركت بعض هذه التصريحات أثرا سلبيا على الناخب الكردي تحديدا، كتصريح أردوغان بأنه لا يوجد شيء اسمه "المشكلة الكردية" في تركيا، في محاولة منه لاستمالة أصوات الناخبين القوميين الأتراك.
هذه الأخطاء التي ارتكبها الحزب جاءت متوازية مع تنامي الخطاب القومي المتبادل لدى كل من الأتراك والأكراد. ولكون حزب العدالة والتنمية يتجنب الخطاب القومي ضمن سعيه للبقاء كحزب يمثل الكلّ التركي، فقد كان الحزب ضحية لهذا التنافس القومي بخسارته لأصوات ذهبت من شريحته الناخبة لحزب الحركة القومية التركية وحزب ديمقراطية الشعوب الكردي. ليخرج المشهد النهائي بالنسبة لحزب العدالة والتنمية بتراجع لأصوات الحزب في كل المحافظات التركية بلا استثناء، عما حصل عليه في الانتخابات السابقة.
لا أريد أن ارسم صورة سوداوية عن الحزب ومستقبله، فالحزب ما زال الحزب الأول في تركيا بلا منازع، ويمثل في المجلس الحالي بمئتين وخمس وثمانين مقعدا في البرلمان، تعادل تقريبا ضعف ما حصل عليه أقرب الأحزاب إليه حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على مئة واثنين وثلاثين مقعدا.
كما أن الحزب مازال يتمتع بدعم الشريحة المحافظة، التي وإن أرادت إيصال رسالة للحزب باعتراضها على بعض سياساته، إلا أنها من المؤكد أنها لم تنفض عن الحزب بل كانت أكبر المفاجئين بنتائج الانتخابات. فما أرادته الشريحة المحافظة هو أن تتراجع نسبة الحزب ليعيد النظر في سياساته لا أن يفقد الحزب الغالبية المطلقة.
على الحزب الآن أن يبدأ بإعادة حساباته ومراجعة مواقع الخلل ومفاصله، (وقد بدأ فعليا بذلك كما تتحدث الدوائر المقربة منه)، كما عليه السعي للتصالح مع الشرائح المجتمعية التي ابتعدت عن الحزب في هذه الانتخابات وتحديدا الشريحة المحافظة عموما والكردية خصوصا. ومن الواضح أيضا أن على الحزب أن يستبعد فكرة التحول للنظام الرئاسي ويتجنب طرحها، ولو للفترة القادمة على أقل تقدير، ويستبدلها بإرسال رسائل طمأنة إلى الناخب التركي على كافة المستويات.
ختاما، فسواء لم تستطع الأحزاب التركية الوصول إلى تحالف وزاري، أم أنها شكلت تحالفا "مرحليا" فإنه لن يطول كثيرا، ومن المؤكد أننا سنشهد انتخابات مبكرة قد تشكل فرصة لحزب العدالة والتنمية، إن استفاد من أخطائه وأحسن إدارة المرحلة القادمة، لزيادة نسبة أصواته بأربع أو خمس نقاط على الأقل، ستكون كافية وفق المشهد الحالي لأن يعود الحزب إلى السلطة منفردا.