في بداية العطلة الصيفية من كل عام تبدأ
علامات الحيرة ترتسم على وجوه الآباء والأمهات.. كيف يقضي أطفالنا أوقاتهم؟ وما هي أهم الأمور التي يجب أن نطورها لديهم؟ أين يذهبون؟ وما هي المهارة الجوهرية التي يحتاجون إلى تعزيزها؟
والإجابة للوهلة الأولى قد تبدو فردية وتختلف من طفل لأخر.. إلا أن هناك احتياجات أساسية للأطفال، نتفق جميعا على مدى أهميتها في حياتهم وحياتنا، عجزت مؤسساتنا التعليمية حتى الآن عن توفيرها فيهم وفينا عندما كنا بمثل عمرهم، ونعاني من نقصها جميعا منذ سنوات وندفع ثمن غيابها الكثير، ألا وهي مهارة التفكير.
هل يعرف أبناؤنا كيف يفكرون؟ هل يقدرون إبعاد
المشاكل؟ هل قراراتهم عميقة وتعتمد على التحليل؟ أم مرتبطة بالعواطف والرغبات؟ وهل من المعقول أو المنطقي أن نبدأ بتزويد أبنائنا بآليات حول تطوير موضوع كهذا وأعمارهم لم تتجاوز التاسعة أو العاشرة؟.
تشير الدراسات التي يجريها الباحث دي بونو، وهو أحد رواد هذا المجال ومعد برنامج كورت للتفكير، إلى أن الأطفال من عمر التاسعة وحتى الثانية عشرة قادرون على الدخول ببراعة في أي مناقشة إن تم تدريبهم جيدا، لأن مهارات التفكير للإنسان غير مرتبطة بمستواه المعرفي أو المعلوماتي، وقد تجد الكثيرين من البالغين لديهم الحيز المعرفي الجيد ومع ذلك عاجزين عن التفكير بشكل موضوعي.
وفي تجربة بسيطة لقياس "أثر التدريب على التفكير" شارك فيها أطفال بعمر العاشرة في مدرسة ريفية نائية، تم تقسيمهم إلى مجموعتين، كل مجموعة تحوي خمسة طلاب، طلب منهم فيها مناقشة اقتراح «أخذ الأطفال أجرا أسبوعيا من أجل ذهابهم إلى المدرسة» وقد كانت إحدى المجموعتين مدربة بشكل جيد في عشر جلسات حول أساليب التفكير والمجموعة الثانية لم تأخذ شيئا.
وبعد مراقبة الحوارات التي دارت في المجموعتين تم رصد الملاحظات التالية: المجموعة المدربة تركز طرحها حول السؤال كيف يأخذ الأطفال مالا دون جهد، الأطفال لا يقدرون الأموال كالكبار، دفع الأموال سوف يؤثر سلبا على قدرة المدرسة في توسيع المباني وتطوير المرافق، وخلصوا إلى أن الطلاب لا يستحقون أموالا.. ومن أين أصلا سوف تأتي المدرسة بالأموال للأطفال.. أما ملاحظات المجموعة الضابطة «غير المدربة» فقد كانت تدور حول: أن الطفل يبذل جهدا أكثر من المدرس وبالتالي يستحق أكثر، ثم تطرقوا لمسالة المطالبة بتوفير وجبات مجانية أيضا، مع السماح بمضغ الحلوى داخل الصفوف وخلاصة قولهم إذا كان المدرس يتقاضى مالا فالأطفال أيضا من حقهم أن يتقاضوا مالا.
عشر جلسات فقط أكسبت المجموعة المدربة قدرة عالية على التركيز وجودة في تقييم الأوضاع، والفارق بين طرح المجموعتين ومستوى النتائج كبير.
مهارات تطوير شخصية الطفل وتدريبه على التفكير مسألة بالغة الأهمية، إن أردنا تربية جيل بإحسان، وهي ليست معقدة، وإنما مهمة تحتاج إلى بعض التركيز والدقة، وعامل نجاحها الأساسي لا يكمن في جهود الأم في البحث عن الدورات التدريبية التي تطرح هذا المسار _وأنى لدورة أن توصل مفهوما عميقا كهذا في خمسة أو عشرة أيام_ وإنما في جهودها لتكون هي المدربة لأطفالها، ومن السهل بقليل من التركيز أن تقوم بهذا الدور إن أرادت إحداث أثر عميق ومتراكم.. يبدأ بسيطا وعشوائيا ويكبر بممارسة يومية ككرة الثلج...
أما عن الكيفية فالمسألة متعلقة بخطوتين، الأولى هي الاستماع الجيد للأطفال ومعاملتهم ككبار في كل شيء.. وإشراكهم في الأمور التي تخص العائلة، وهذه مسائل لا تأتي بالتظاهر وإنما بقناعة تامة بأنهم قادرين _مع قليل من الصبر_ على إعطائنا أبعادا وحلولا لم نكن نتخيلها.
وقد سجل التاريخ لعلي بن أبي طالب شرف أن يكون أول غلام آمن برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمره حينها عشر سنوات، ولنا أن نتخيل شكل الحوار الذي دار بين نبي مرسل وغلام بهذا العمر حول مسألة بالغة الخطورة والسرية، وحجم الثقة التي أولاها عليه السلام له.
الخطوة الثانية وهي البحث عن أحد برامج تطوير التفكير لدى الأطفال والبدء بتطبيقه بجلسات مدتها لا تتجاوز ربع الساعة لمرتين أسبوعيا كحد أدنى، وهناك العديد من الخيارات العلمية والتي تسير وفق منهج تسلسلي، نذكر منها برنامج (كورت لتعليم مهارات التفكير) وبرنامج (بوردو لتنمية التفكير الإبداعي)، وبرنامج (تحسين التفكير باستخدام القبعات الست).وهذه البرامج لا تحتاج إلى احترافية عالية بقدر ما تحتاج إلى ثبات واستمرارية من الأم، وأفضل شخصيا البدء ببرنامج كورت لدقته وسهولة تطبيقه بجلسات قصيرة وممتعة، ولأن المواد التدريبية لهذا البرنامج صممت على شكل بطاقات يسهل الحصول عليها بقليل من البحث من المواقع المتخصصة.
أستيقظ كل يوم وأنا أتساءل ماذا فعلت لأطفالي؟ وكيف أكون أما صالحة لهم؟ وما المطلوب مني أن أفعله ليكونوا دوما أفضل؟ وماذا تعني كلمة أفضل؟ بعد عدة مراجعات لنفسي أدركت أن الخطوة الأساسية التي يبتدئ بها الأبوان مشروعهما الخاص حول "ولد صالح يدعو له؟" تأتي من "كيفية" بناء الولد الصالح.. وهي مرحلة لا تكفيها الإرشادات العامة لأبنائنا وتعليمهم الصح والخطأ، وإنما تعليمهم كيفية التفكير...، وكيفية تحليل الأمور ليصلوا هم بأنفسهم لتمييز الصح من الخطأ، وهذه المسألة لا تتأتى بإنتاج أطفال "مؤدبين"، أو"مطيعين" بقدر ما تأتى بإنتاج أطفال "مفكرين".