لا يكاد يمر شهر في منطقة الخليج، دون أن تقرأ أو تسمع خبراً يستفزك ويرفع "ضغطك": تيس بـ200 ألف دولار، شركة تنتج سيارات مرصعة بالماس والياقوت خصيصاً للسوق الخليجي، حمامة بعشرين ألف دولار، رقم هاتف بـ700 ألف ريال! ثم طالعنا في الصحف عن بيع رقم سيارة في إمارة رأس الخيمة بدولة الإمارات بعشرة ملايين درهم، أي بأكثر من مليونين وربع المليون دولار. أمريكي وليس أثيوبيا يا ...!! وناقة بمليونين ونصف المليون ريال. والناقة سودانية، وجعفر السوداني أتى إلى منطقة الخليج في سياق تغطية رحلات ابن بطوطة وطاب له المقام فيها، وعلى مدى عقود لم يصل مجموع المبالغ التي حصل عليها بالعمل الرسمي والعمل الإضافي في مخالفة صريحة لقوانين العمل الخليجية التي تحظر الجمع بين وظيفتين، ربع قيمة تلك الناقة السودانية ذات الرقبة العوجاء.
ماذا تستطيع أن تفعل يا أبو الجعافر لو كان لديك مثل المبلغ الذي تم دفعه نظير لوحة سيارة؟ (وحرية الحلم وحرية تنفس الأوكسجين ما زالتا مكفولتين في معظم الدول العربية والعبرية!): تتزوج نانسي عجرم وأليسا وهيفاء وروبي، وتلزمهن بارتداء النقاب، والشادور الأفغاني؟ بس هؤلاء أربعة، ومعنى هذا أن تطلق أم الجعافر؟ سامحوني، فالفلوس تنسيك كل شيء! جميعهن لا يساوىن عندي ظفر أم الجعافر، بنت الناس المؤدبة التي قبلت بي زوجا، في زمن كنت فيه من مستحقي الزكاة، وصبرت علي كل هذه السنوات وأعطتني أجمل الهدايا: ولدين وبنتين.
بمثل ذلك المبلغ سأشتري لزوجتي خاتماً بـ300 دولار، وعقداً من البلاتين بـ600 دولار.. خليها ألف، وهذا آخر كلام عندي!! وعشرين فستاناً، وأربعة أزواج من الأحذية، (نصيحة من زوج مزمن: الأحذية في نظر النساء تأتي في المرتبة الثانية بعد الحلي، ربما لأنها من أسلحة الدمار الشامل، ويقال إن رجلا اصطحب زوجته إلى محل يبيع أحذية، فعرض عليها البائع حذاء بكعب طويل مدبب، ولكن الزوج اقترح عليها آخر بكعب قصير مسطح، فلما حاججه البائع طويلا، معددا مزايا ذي الكعب المدبب، قال له الزوج بصوت خفيض: أنا الذي سأُضرب به فاترك لي حرية الاختيار).
وسأفتح لكل واحد من عيالي حساباً مفتوحاً، لمدة شهر في بيرغر كنغ وماكدونالدز وبيتزا هت، وآيسكريم باسكن روبنز، وسأشتري لخالتي طقم أسنان من سن الفيل، وسأشتري لكل واحدة من أخواتي زوجين من الأحذية بكعوب عالية، فمن حقهن أن يلحقن بركب الحضارة، وإذا أصيبت إحداهن بكسر أو التواء في الساق فذنبها على جنبها، لأن تلك ضريبة "التخلف".
ياما عانيت عندما لحقت بركب الحضارة، ولبست البنطلون خلال أول زيارة للخرطوم، وكنت أحس بالخجل، لأنني حسبت أنني صرت أمشي كما سعاد حسني في تلك الأيام، وإلى عهد قريب كان أهل الأرياف في السودان يشككون في "رجولة" الرجل يرتدي البنطلون، ويوم زواجي "دُخت" حتى عثرت على شخص يساعدني على ربط الكرافتة، إذ لم يكن أي من معارفي وأصدقائي قد تعامل مع تلك الخرقة الملونة، وبعد الجلوس ساعتين وهي تخنقني، حاولت فكها، ولكن من حولي قالوا لي: عيب أنت عريس، ولا بد أن تظل بكرافتة حتى نهاية الحفل، فقلت لهم: يا تفكوها، يا أطلق!
طيب ماذا عن نفسي وتلك الملايين في يدي؟ بصراحة لا أظن أنه ينقصني شيء، وعلى كل محتاج أن يتصل بي فور سماعه خبر حيازتي لتلك الملايين، فعندي زوجة وعيال وأقارب، وعندي سيارة قادرة على السير وعندي وظيفة، وعندي عدة قمصان وبنطلونات، (لا أملك عمامة لأنني لا أستخدمها، لأنني أعتقد أن العمامة والغترة والعقال هي التي تكبس على أدمغتنا المكبوسة أصلاً بالكبت والقهر)، وعندي كذا جاكيت، وقد هرولت إلى تشيكوسلوفاكيا عندما أدركت أن الاشتراكية في طريقها إلى الزوال، وهناك وجدت أن سعر أفخم جاكيت نحو 30 دولاراً فاشتريت منها بالطن المتري، وإذا رأيتني وجيها أنيقاً على شاشة تلفزيون فاعرف أنني أرتدي ملابس تعود إلى الحقبة الاشتراكية، أي بالتحديد عام 1990.
وربما يفسر هذا حسرتي على انهيار الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الاشتراكي، فصار ظهرنا مكشوفا، وفلادمير بوتين الذي يريد استرداد أمجاد السوفييت، صار نصيرا للغيلان العرب والعجم، ولهذا ازداد إعجابي الشديد بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو (رغم أنه اليوم في الظل)، ذلك الطود الأشم الذي ظل يعطي أمريكا بالشلوت، وعاش هو وشعبه مرفوعي الرؤوس وموفوري الكرامة. ولم يتعرضوا لما تعرضنا له في سجون أمريكا في العراق من انتهاك للرجولة بأعواد المكانس، وتقبلنا ذلك صاغرين، لأن ماما امريكا تعرف مصلحتنا، وتريد أن تصلح أحوالنا ومن حق الـ "ماما" أن تقسو على عيالها، ونحن كما أثبتت الأيام عيال بـ "ريالة" و"برابير".
ويفوت علينا أن هذه الماما بعكس ما نعرفه من أمهات، تأخذ ولا تعطي. أو تعطي القليل مقابل ثمن باهظ، وتقول لها: يا ماما أمريكا، أنا خائف، وأتعرض للتحرش. فتقول لك: ولا يهمك يا حبيبي، ادفع، وللفلوس كشكش، وإلا ستتدشدش، عندما تتدعدش.