في الخامس عشر من مايو الجاري 2015 تحل الذكرى الأولى لانطلاقة ما يسمى بعملية الكرامة التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر لتحرير ليبيا ممن يصفهم بالإرهابيين والمتطرفين. وتمضي سنة كاملة دون أن يتحقق هدف تحرير مدينة واحدة من طرف عملية الكرامة باستثناء المدن التي انضمت للعملية بطواعية نتيجة واقعها القبلي المتجانس. ونتحدث هنا عن مدن البيضاء وطبرق بشكل رئيسي وهي مدن صغيرة لا تأثير لها من حيث الثقل السكاني ولكن بعضها يتمتع برمزية تاريخية كمدينة البيضاء التي تعتبر عاصمة الحركة، أو بالأحرى الطريقة السنوسية في ليبيا التي يعود لها الفضل في تأسس الدولة الليبية المعاصرة.
انطلقت عملية الكرامة على وقع كم هائل من الاغتيالات السياسية مجهولة المصدر غير أن آلة الدعاية الإعلامية تحمل بدون تدقيق مسئولية عدم الاستقرار للثوار السابع عشر من فبراير الذين يتشكلون في الأساس من الإسلاميين والوطنيين الليبيين ممن لا يمكن تصنيفهم تصنيفا إيديولوجيا صارما مع ملاحظة وجود تيار أنصار الشريعة المقرب من القاعدة والذي يتحرك بحرية في بعض مدن الشرق الليبي خصوصا في درنة وبنغازي بشكل مكشوف ويفتقر للاحتراف الأمني والحبكة التنظيمية المعهودة في التنظيمات الجهادية وقد تكشفت هذه الحقيقة لاحقا بشكل جلي عندما تمكنت المخابرات الأمريكية من استلال أحمد أبو ختالة من بين حراسه وأنصاره كما تسل الشعرة من العجين مما يؤكد الرأي القائل باختراق الحالة الجهادية في ليبيا.
عملية الكرامة أدت لانقسام كبير في الصفوف السياسية وحتى داخل مليشيات وسرايا الثوار الذين أحجم بعضهم عن المشاركة في القتال بينما كانت التيارات الوطنية المخلصة لروح ثورة فبراير وشهدائها وتضحياتها أكثر حماسا كيف وقد أشعلوا الثورة في أيامها الأولى واعتمدوا ساعتها على شجاعتهم وصبرهم فقط قبل حصولهم على الأسلحة كما يصفهم خصومهم من قيادات الكرامة وأغلبهم من بقايا النظام السابق بأنهم متطرفون وإرهابيون.
اضرب واهرب
تركزت عمليات الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر لحد الساعة على مدينة بنغازي عاصمة إقليم برقة واستخدمت قوات حفتر تكتيك "اضرب واهرب" وقد عجزت خلال عام كامل عن إنجاز السيطرة على المدينة الرمز في الثورة الليبية.
أدى القتال في بنغازي إلى تدمير هائل للبنية التحتية في المدينة حيث هجرت الحرب أكثر من مائة وعشرة آلاف شخص من مساكنهم وتعرف أحياء المدينة الآن انقساما في السيطرة بين قوات عملية الكرامة وقوات مجلس شورى الثوار الذي يتولى الدفاع عن المدينة وتتمركز قواته فيها منذ العام 2011 بعد الثورة حيث أسس الثوار أهم كتائبهم المقاتلة.
من يستنزف من؟
إذا كانت عملية الكرامة نجحت في شيء فهو نجاحها في حرب الاستنزاف القوية للتشكيلات الثورية التي كان لها الدور الأبرز في الإطاحة بنظام القذافي حيث تمكنت باستمرار من استهداف قيادات نوعية كما حصل مع محمد الزهاوي ومحمد العريبي الملقب بوكا ويأتي على رأس الجرحى القيادي زياد بالعم.
لا توجد لحد الساعة حصيلة نهائية للقتلى بعد عام تقريبا من القتال المستمر بين الطرفين غير أن المصادر غير الرسمية تقدره بالآلاف.
قصور في الأداء
ورغم سعي حملة الكرامة لتطهير البلاد من الإرهاب إلا أن قصورا كبيرا يعتور قوات اللواء حفتر والمعتمدة أساسا على مقاتلين من مدينة المرج الحاضنة الاجتماعية لهذه القوات وهي مدينة صغيرة لا تأثير لها يذكر في الشرق الليبي وإذا تجاوزنا الضعف العسكري في الشرق فإن هذه الحملة ورغم التأييد الذي لقيته من القبائل والمتقاعسين عن الثورة خلال العام 2011 أو الملتحقين بها بعد تقويض النظام السابق خلال الأشهر الأخيرة من انهياره إلا أن عملية الكرامة تبقى مجرد ثوب فضفاض للتدخل المصري في الشأن الليبي.
تجاوز الأفندي
فقد أثبتت التحريات أن اللواء خليفة حفتر ينسق مع المصريين والأمريكان منذ اللحظات الأولى لتحركه العسكري وإن كانت الخبرة المصرية قد توصلت بعد أشهر قليلة من العمل معه إلى أنه لا يصلح لقيادة العمليات العسكرية في الشرق الليبي والتعبئة لصالح القتال نظرا لكونه ينحدر من وسط قبلي غير مؤثر في الشرق وأوصت اللجنة القومية العليا في القوات المسلحة المصرية باستبداله بأحد الضباط المنحدرين من كبرى القبائل في المنطقة الشرقية حتى تتأسس لعملية الكرامة نواة عسكرية صلبة قادرة على الصمود والإنجاز الفعلي على الأرض.
غير أن تجاوز حفتر غير ممكن بالنسبة لشركائه الإقليمين والدوليين وقد تأكد خلال الأشهر الأخيرة أن الوزن السياسي للواء خليفة بالقاسم حفتر أكبر من وزنه العسكري وأنه أقوى نفوذا من شركائه حتى الداخليين بدليل أنه فرض نفسه قائدا عاما للجيش الليبي ورسمه رئيس البرلمان المنحل عقيلة صالح قائدا عاما للجيش الوطني الليبي وتلك أمنية تاريخية للرجل توصل لتحقيقها أخيرا بعد عقود من العمل فقد انخرط سابقا في ما كان يسمى أيام القذافي بجبهة إنقاذ ليبيا وشكل تنظيم يحمل اسم الجيش الوطني الليبي وظل ينسق مع المخبرات الأمريكية والإقليمية وما إن اندلعت الثورة حتى بدأ في التنسيق مع بعض الثوار الذين لم تعجبهم شخصيته "الأفندية" المتعالية.
فجر الحسم
أما في العاصمة طرابلس وفي الغرب الليبي عموما فإنه لا وجود لقوات عملية الكرامة والتي عولت عند انطلاقتها على قوات الزنتان ذات التسليح الجيد والتي تتمركز في الغرب الليبي ولكنها تبقى عديمة الفاعلية نتيجة سيطرة قوات درع الوسطى المصراتية ذات التسليح الجيد والرافضة لعملية الكرامة والتي قررت في أواخر يوليو 2014 إطلاق عمليات قسورة وفجر ليبيا التي تشكلت من مليشيات تنحدر من اثني عشر مدينة في الغرب الليبي إضافة لحصولها على تأييد عشرات القبائل المؤثرة ووضعت لها هدفا مركزيا يتمثل في إنهاء سيطرة مليشيات الصواعق والقعقاع الزنتانية (وهي في الغالب من بقايا النظام السابق) على مطار طرابلس وأتبعتها بمناطق ورشفانة والزنتان وهو ما أنجزته علمية فجر ليبيا بصعوبة كبيرة ولكنها حققت انتصارا فعليا جعلها أكبر قوة في الغرب الليبي.
مع نهاية العام 2014 أسست فجر ليبيا قوات الشروق التي تهدف بشكل رئيسي لإنهاء سيطرة مليشيا الجضران الفيدرالية الانفصالية على منطقة الهلال النفطي وهو ما سيؤسس إن تم للشروع في تحرير مدن الشرق الليبي التي تعرف حربا مستمرة وانقساما تتكافأ فيه قوى الثوار مع قوى الثورة المضادة مما جعل الحسم مستحيلا في بنغازي قاعدة الشرق وعاصمة الإقليم المؤثر في البلاد.
ويبقى وضع إقليم فزان الجنوبي مستقرا استقرارا نسبيا إذا سلم من الصراعات المستمرة التي تندلع من بين الحين والآخر بين التبو وأولاد اسليمان في سبها عاصمة الإقليم ويبقى الجنوب هامشيا في ظل الصراع القوي بين الغرب والشرق في ليبيا ورغم أن بعض القبائل في الجنوب ساندت عملية الكرامة عند انطلاقتها تشوفا لشعارها الذي يعد ببناء الجيش والشرطة.
في الجنوب لا وجود لقوات ذات قيمة من حيث التسليح والعدد لتساند عملية الكرامة وحتى إذا وجدت قوات فإنها ستواجه درع ليبيا لواء الجنوب المشكل من قوات مصراتة وهي قوات قليلة نسبيا تشكل امتداد لدرع الوسطى الذي يسيطر في الغرب الليبي عموما.
يمكن أن نخلص إلى أن الحرب التي انطلقت في الخامس عشر من مايو 2014 نتجت عن ما يلي:
- عمقت الانقسام السياسي وحولته إلى شرخ اجتماعي وملف ضخم من المظالم.
- قوضت الاستقرار والسلم الأهلي وزادت من المخاطر المحتملة للجريمة المنظمة والإرهاب لأنها أدت إلى انهيار شبه كامل لأجهزة الدولة.
- أغلقت هذه الحرب الباب أمام الحلول الوسطى مما زاد من الضحايا الذين يقدر عددهم بالآلاف.
- أوصلت الحرب عدد اللاجئين خلال العام الحالي إلى ما يناهز 400 أربع مائة ألف مهجر ونازح في مجموع المناطق وهو رقم كبير يضاف إلى وجود حوالي مليونين ليبي خارج البلاد.
- حولت الأزمة من واقع أزمة سياسية إلى أزمة عسكرية وأمنية مستحكمة لابد لها من حلول دولية.
- زادت العملية من حجم التدخل الإقليمي والدولي في الأزمة الليبية حتى أدى الأمر لأن تكون دول عربية طرفا مباشرا في الصراع مع انه يبعد عنها آلاف الأميال.