فقد أصبحوا قلة قد تصل إلى الندرة أولئك الذين يحملون همّ المقاومة في قطاع
غزة، وسحبوا هذا الموقف على الشعب
الفلسطيني في القطاع، ناهيك عن الذين راحوا يحمّلون مسؤولية استمرار الحصار على قطاع غزة، ولا سيما الحصار من الجانب
المصري (في عهد عبد الفتاح السيسي) على
حماس تارة؛ باتهامها في تغليب انتسابها الإخواني على دورها الوطني والمقاوم في فلسطين، وطورا باتهامها المسؤولة عن الانقسام وعن الحصار الذي تضربه سلطة رام الله على القطاع. أي بسبب عدم رضوخها للشروط التي وضعها محمود عباس للمصالحة. وقد لخصها بثلاثة شروط: قرار واحد للسلم والحرب، وسلاح واحد، وسلطة واحدة. والمقصود تسليمه القرار الخاص بالسلم والحرب، وتسليم سلاح المقاومة للأجهزة الأمنية التي تأسّست لتنفيذ اتفاق التنسيق الأمني مع الاحتلال. وأما السلطة الواحدة فسلطته الكاملة على قطاع غزة كما هو الحال في الضفة الغربية.
طبعاً يستطيع المرء أن يتفهم الانشغالات التي تثيرها الصراعات والأزمات التي تعصف بالوضع العربي عموما. ولكنه لا يستطيع أن يتفهم أن تصل هذه الانشغالات إلى حد السكوت المطبق على حصار قطاع غزة. وهو (الحصار) الذي يستهدف نزع سلاح المقاومة، وإرجاع الوضع في قطاع غزة كله من حالة القاعدة لمقاومة مسلحة، إلى الحالة التي يتسّم بها الوضع في الضفة الغربية. والأنكى أن هذا السكوت يُغَطى بالإصرار اللفظي على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى استراتيجية المقاومة المسلحة في مواجهة العدو الصهيوني.
فعلى الذين ما زلوا مقتنعين بمركزية القضية الفلسطينية وباستراتيجية المقاومة المسلحة في مواجهة العدو الصهيوني، أن يفسّروا سكوتهم على حصار قطاع غزة والمضروب عليه، بصورة قاسية للغاية منذ انتهاء حرب العدوان الصهيوني في آب/أغسطس 2014. فعلى سبيل المثال لم يُفتَح معبر رفح منذ بداية العام الحالي إلاّ ستة أيام فقط، وهو حصار، للأسف وللألم، مصري- سلطة رام الله مشتركة.
يجيء هذا الحصار، بالرغم من سابقِهِ الذي ضُرِبَ منذ تموز/يوليو 2013، بعد الانتصار الميداني الكبير الذي حققته المقاومة وجماهير الشعب في قطاع غزة في حرب العدوان في تموز/يوليو، آب/أغسطس 2014، الذي امتدّ طوال 51 يوماً. وكان يفترض أن يُكلل بانتصارٍ سياسي أُجهِضَ بسبب التخلي عن الوعود التي أُوقِفَ إطلاق النار على أساسها، وبسبب عدم المضي بالمفاوضات غير المباشرة التي كان يُفترَض بها أن تستجيبَ لشروطِ المقاومة.
هل هنالك ما هو أقسى من هذا السكوت، الذي سيصل إلى حد التواطؤ إذا ما استمر من دون أن يتحوّل إلى صحوة وعي، أو صحوة ضمير، من أجل المطالبة وممارسة الضغوط لوضعِ حد له؟
إن العمل على رفع الحصار عن قطاع غزة لا يقتصر على أن يكون رفعاً لظلمٍ فادح، وخطأ وطنياً وعروبياً، وخطيئة دينية وإنسانية إذ يجب أن يكون مرفوضاً بحد ذاته ومن حيث المبدأ. بل إنه ضار، وعائد بأشد الأضرار، على منفذيه مصرياً وفلسطينياً. لأن المقاومة المسلحة والصمود الشعبي، وهو ما أثبتته ثلاث حروب، شكلا معادلاً استراتيجياً عسكرياً في الصراع الفلسطيني- العربي- الإسلامي ضدّ الكيان الصهيوني. إنه معادل استراتيجي فائق الأهمية بالنسبة للقضية الفلسطينية والأمن القومي المصري بالذات. ولهذا يُخطئ من يظن أن الأمن القومي المصري في أمان بسبب المعاهدة المصرية – الإسرائيلية، أو أن مستقبل الصراع الفلسطيني ضدّ المشروع الصهيوني قد حدّده مسار اتفاقية أوسلو. فما تلك المعاهدة وما هذه الاتفاقية إلاّ لحظات عابرة، فقد جاءتا ضدّ طبيعة الصراع وحاولتا إخفاء أنياب الوحش الصهيوني لتُشيعا وهماً بإمكان تغيير طبيعته العدوانية السرطانية. فالمواجهة العسكرية قادمة لا محالة، وهو يُعدّ لها ويريدها ولا يشفي غليله سواها؛ لأنه إما أن يأخذ كل ما يريد أو يرحل عن أرضٍ اغتصبها، وينهي وجوداً لا يكون فيه سيد الفلسطينيين والمصريين والعرب والمسلمين.
لهذا من الجريمة أن يُسلّم قطاع غزة لمحمود عباس وفقاً لشروطه، أو لأيّة شروط تذهب لتنزع سلاح المقاومة، كما يستهدف إغلاق معبر رفح من الجانب المصري منذ تموز/يوليو 2-13 إغلاقاً لم يُعرَف حتى في زمن حسني مبارك.
إلى هنا لم يُوجَّه إلى الساكتين عن حصار قطاع غزة، أن يضعوا في اعتبارهم ما يُعانيه الشعب في القطاع من ويلات الحصار على مستوى الطعام والمنام والأدوية، ومواجهة عشرات الآلاف التي تعيش في العراء وسط ركام الأحياء المدمرة. وإلى هنا لم يُذكََّروا بموت الأطفال جوعاً وبرداً وبلا دواء. والأهم لم يُذكَّروا بأن كل هذا يحدث لشعبٍ سطّرَ آياتٍ من البطولة في المقاومة والصمود، والدفاع عن كرامتنا جميعاً، وأولنا كرامة الساكتين عن حصار قطاع غزة.
مرة أخرى، قد يتفهم المرء، بل يجب أن يتفهم، الانشغال في تحديات كبرى يتعرض لها الوضع العربي، وأن يؤجل الانشغال في المعركة ضد العدو الصهيوني بسبب تلك التحديات. ولكن لا يمكن أن يتفهم، بل يجب ألاّ يتفهم السكوت المطبق على حصار غزة، فيما المطلوب رفع الصوت فقط ضدّ هذا الحصار.