كتاب عربي 21

الجحيم

1300x600
يتأتى للذهن، حين تصطف هذه الأحرف الأربعة، مشاهد شتى، عند العرب، متأثرين باللغة والإسلام، تغلب النار على صورة الجحيم في البال. وهي عندهم مؤنثة، ربما لأنها تسع وتحتوي، وربما لأنها تشبه الحرب أو الغول أو البئر، أمومة معكوسة: "مشبهة القساوة بالحنان"، تحتضن لتؤلم، وتحيط لتخيف لا لتؤمن.  والعلاقة بين الحرب والنار والجحيم واضحة في اللغة، ففي "لسان العرب" لابن منظور، يقول:

"الجحيمُ: اسم من أَسماء النار. وكلُّ نارٍ عظيمة في مَهْواةٍ فهي جَحِيمٌ، من قوله تعالى: قالوا ابْنُوا له بُنْياناً فأَلْقُوه في الجحيم. (...) الجحيمُ النارُ الشديدة التأَجُّج كما أَجَّجوا نارَ إبراهيم النبيِّ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهي تَجْحَمُ جُحوماً أي توقَّد توقُّداً، وكذلك الجَحْمةُ والجُحْمةُ؛ (...) وقد تكرر ذكر الجحيم في غير موضع في الحديث، وهو اسم من أَسماء جهنم، وأَصله ما اشْتَدَّ لَهَبُه من النار. والجاحِمُ: المكان الشديد الحرّ؛ (...). وجاحِمُ الحَرْب: مُعْظَمُها، وقيل: شدَّة القَتْل في مُعْتَركها".

ومن المعاني المرتبطة بالجذر اللغوي ذاته، العين شديدة التحديق، غضباً أو دهشة أو تبجحاً وقلة خجل، والعين المحمرَّة من الحنق أو من المرض، يقول:

"...والجُحام: داء يُصِيب الإنسانَ في عينه فتَرِم، وقيل: هو داء يُصيب الكلب يُكْوى منه بين عينيه.والجَحْمةُ: العينُ. وجَحْمَتا الإنسان: عيناه. والجُحُمُ: القليلُو الحياء.وعينٌ جاحِمةٌ: شاخِصةٌ. وجَحَم الرجلُ عينيه كالشاخِص. وجَحَّمني بعينِه تَجْحيماً: أحدَّ إليَّ النظر. والأَحْجَمُ: الشديدُ حُمْرةِ العينين مع سَعَتِهما...".

أما جهنم، فاسم اختلف أهل اللغة فيما إذا كان عربياً أم أعجمياً، ومن جعله عربياً، قال إن أصله "الجِهنّامُ: وهو القَعْرُ البعيد. وبئر جَهَنَّمٌ وجِهِنَّامٌ، بكسر الجيم والهاء: بعيدة القَعْر، وبه سميت جَهَنَّم لبُعْدِ قَعْرِها".

أما أصله غير العربي، فعبري، وهي كلمة مركبة من اثنتين، "جي" ومعناها "الوادي" و"هنّوم"، وهو اسم رجل، و"جي-هنّوم" أي وادي هنوم، أو وادي بني هنوم، هو وادٍ بظاهر مدينة القدس، مذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس، واسمه حتى اليوم وادي جهنم. في سفر يشوع يرد ذكره في حدود الأرض الممنوحة لقبيلة يهوذا، أما سفر أخبار الأيام الثاني  وسفر إرمياء،  فيرويان كيف أن اليهود أقاموا في الوادي معابد لآلهة وثنية، مثل "بعل" و"مولوخ"، وأنهم كانوا يقدمون لهذه الآلهة أضحيات بشرية فيحرقون الأطفال أحياء على مذابحها. ويعرف الوادي أيضاً باسم وادي توفث أو توفة، واسم توفث إما مصدره الكلمة العبرية التي تعني الطبل أو الدُّفّ، لأن صرخات الأطفال كان تغطيها طبول كهنة بعل ومولوخ قبل أن يضحوا بهم ذبحا أو حرقا، وإما مصدره الكلمة العبرية التي تعني الحريق.  فعند رواية أخبار الملك آحاز (واسمه اختصار ليَهُوَ-آحَاز، أي الله أخذ) والذي حكم في القرن الثامن قبل الميلاد، يروي الكتاب المقدس فيقول:

"كَانَ آحَازُ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ، وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَدَاوُدَ أَبِيهِ، بَلْ سَارَ فِي طُرُقِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ، وَعَمِلَ أَيْضًا تَمَاثِيلَ مَسْبُوكَةً لِلْبَعْلِيمِ (جمع عبري لبعل) وَهُوَ أَوْقَدَ فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ (جهنم) وَأَحْرَقَ بَنِيهِ بِالنَّارِ حسب رجاسات الأمم" (سفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثالث والعشرون)

كذلك في رواية أخبار الملك مَنَسَّي بن حزقيا بن آحاز، يقول السِّفْرُ: 

"كَانَ مَنَسَّى ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ. وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ رَجَاسَاتِ الأُمَمِ (...). وَعَادَ فَبَنَى الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي هَدَمَهَا حَزَقِيَّا أَبُوهُ، وَأَقَامَ مَذَابحَ لِلْبَعْلِيمِ، وَعَمِلَ سَوَارِيَ وَسَجَدَ لِكُلِّ جُنْدِ السَّمَاءِ وَعَبَدَهَا (...) وَعَبَّرَ بَنِيهِ فِي النَّارِ فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، وَعَافَ وَتَفَاءَلَ وَسَحَرَ، وَاسْتَخْدَمَ جَانًّا وَتَابِعَةً، وَأَكْثَرَ عَمَلَ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ لإِغَاظَتِهِ.وَوَضَعَ تِمْثَالَ الشَّكْلِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي بَيْتِ الله." (سفر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثالث والثلاثون)

أما سفر إرمياء، فهو أكثر الأسفار وضوحا، يقف النبي يحذر الناس أن مملكة يهوذا ستسقط، وستتكسر كإبريق الفخار، وستكون المملكة كلها مقبرة كتلك التي في وادي توفة (توفث) ووادي جهنم، بسبب ما تفشى بين أهلها من ظلم، وإحراق الأطفال وعبادة الأوثان، فاقرأ:

"هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: "اذْهَبْ وَاشْتَرِ إِبْرِيقَ فَخَّارِيٍّ مِنْ خَزَفٍ، وَخُذْ مِنْ شُيُوخِ الشَّعْبِ وَمِنْ شُيُوخِ الْكَهَنَةِ، وَاخْرُجْ إِلَى وَادِي ابْنِ هِنُّومَ الَّذِي عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ الْفَخَّارِ، وَنَادِ هُنَاكَ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي أُكَلِّمُكَ بِهَ.وَقُلِ: "اسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ يَا مُلُوكَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ. هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا جَالِبٌ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ شَرًّا، كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذْنَاهُ.مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُونِي، وَأَنْكَرُوا هذَا الْمَوْضِعَ وَبَخَّرُوا فِيهِ لآلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَعْرِفُوهَا هُمْ وَلاَ آبَاؤُهُمْ وَلاَ مُلُوكُ يَهُوذَا، وَمَلأُوا هذَا الْمَوْضِعَ مِنْ دَمِ الأَزْكِيَاءِ،وَبَنَوْا مُرْتَفَعَاتٍ لِلْبَعْلِ لِيُحْرِقُوا أَوْلاَدَهُمْ بِالنَّارِ مُحْرَقَاتٍ لِلْبَعْلِ، الَّذِي لَمْ أُوْصِ وَلاَ تَكَلَّمْتُ بِهِ وَلاَ صَعِدَ عَلَى قَلْبِي.لِذلِكَ هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ يُدْعَى بَعْدُ هذَا الْمَوْضِعُ تُوفَةَ وَلاَ وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، بَلْ وَادِي الْقَتْلِ.وَأَنْقُضُ مَشُورَةَ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ فِي هذَا الْمَوْضِعِ، وَأَجْعَلُهُمْ يَسْقُطُونَ بِالسَّيْفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ وَبِيَدِ طَالِبِي نُفُوسِهِمْ، وَأَجْعَلُ جُثَثَهُمْ أُكْلاً لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَلِوُحُوشِ الأَرْضِ.وَأَجْعَلُ هذِهِ الْمَدِينَةَ لِلدَّهَشِ وَالصَّفِيرِ. كُلُّ عَابِرٍ بِهَا يَدْهَشُ وَيَصْفِرُ مِنْ أَجْلِ كُلِّ ضَرَبَاتِهَا.وَأُطْعِمُهُمْ لَحْمَ بَنِيهِمْ وَلَحْمَ بَنَاتِهِمْ، فَيَأْكُلُونَ كُلُّ وَاحِدٍ لَحْمَ صَاحِبِهِ فِي الْحِصَارِ وَالضِّيقِ الَّذِي يُضَايِقُهُمْ بِهِ أَعْدَاؤُهُمْ وَطَالِبُو نُفُوسِهِم"......ثُمَّ تَكْسِرُ الإِبْرِيقَ أَمَامَ أَعْيُنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَسِيرُونَ مَعَكَ، وَتَقُولُ لَهُمْ: "هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هكَذَا أَكْسِرُ هذَا الشَّعْبَ وَهذِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا يُكْسَرُ وِعَاءُ الْفَخَّارِيِّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بَعْدُ، وَفِي تُوفَةَ يُدْفَنُونَ حَتَّى لاَ يَكُونَ مَوْضِعٌ لِلدَّفْنِ" (سفر إرمياء الإصحاح التاسع عشر).

أما في القرآن فصور الجحيم كثيرة، لها خازن، وفيها زبانية يعذبون أهلها بالنار، ويسلكونهم في السلاسل، ويسقونهم المُهل والحميم، وتتبدل جلودهم ليتجدد الألم. ثم هي ذات صوت وقول، تتميز من الغيظ وتقول هل من مزيد، وأهلها خالدون فيها لا يشفق عليهم أحد. وصورة الجحيم في القرآن تشمل الإهانة والخزي والعار لسكانها أيضاً، فالألم النفسي مضاف للألم البدني.

وفي العصور الوسطى، كان من أهم من فصلوا في صورة الجحيم أبو العلاء المعري في رسالة الغفران، ومن الغرائب أن مدينته شهدت من الجحيم الأرضي في الزمان الغابر وفي زماننا هذا ما يجل عن تصوير الشاعر العظيم، فأكل الصليبيون فيها لحوم أطفالها وشووهم على أسياخ حسب روايات المؤرخين المعاصرين للحملة الأولى، كرودلف القايني، وفلتشر الشارتري، بين عام ألف وستة وتسعين وألف وتسعة وتسعين لميلاد، وهي اليوم ترى ما يراه غيرها من المدن السورية في حرب لا تريد أن تنتهي أو تخف وطأتها.  هذا بالطبع، بالإضافة إلى دانتي أليغيري، وجحيمه المخروطية ذات الدوائر التسع، والذي في أعلاه من يحايدون في القضايا الأخلاقية، وفي قعره إبليس، يقضم رؤوس الخونة، وفي فمه يهوذا الذي باع المسيح بثلاثين فضة.

أخي القارئ، إنني أدعوك أن تنظر إلى الشاشة أو إلى نفسك في المرآة، وأن تدقق فيما يجري حولك، وأن تقارنه بالمكتوب أعلاه:
براميل متفجرة تهوي على رؤوس الناس، لأن القتلة يحبون التوفير، فلا يريدون قتل ضحاياهم بالقنابل الغالية..
رؤوس تقطع، لأبرياء لا ذنب لهم إلا أن تصادف وجودهم في المكان الخطأ في الوقت الخطأ..
حكام يجمعون السماجة والغباوة والقساوة والفشل، وطول البقاء..

نصف عدد اللاجئين في العالم عندنا أو من عندنا، مئات الآلاف من القتلى كل عام، ملايين القتلى كل عشر سنوات، أكثرهم أطفال، ففي الثمانينيات راح أكثر من مليون قتيل في الحرب بين العراق وإيران، ومثلهم أو أكثر منهم في الحرب الأهلية في السودان، وفي التسعينيات، راح مئات الآلاف من القتلى في الجزائر، ومليون آخرون جراء حصار العراق، نصفهم من الأطفال، وبين عام الألفين والألفين وعشرة، سقط مثل هذا العدد في احتلال العراق وأفغانستان وحروب إسرائيل في لبنان وغزة، ثم بين ألفين وأحد عشر واليوم تشرد أحد عشر مليون سوري داخل بلادهم وخارجها، أي نصف الشعب، واحد من كل اثنين اضطر لترك بيته، والعراق أخو الشام، حاله من حاله، ولا مصر للأمة تعدل الميل، يحكمها من لم يتورع عن ذبح الناس في الشوارع وإحراق جثثهم ودهسها بالدبابات وهو يتكلم عن الحب، ويؤمن بالجن والعفاريت. حروب أهلية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا والصومال، واحتلال في فلسطين. والبلاد التي لم تشهد حروبا بعدُ تطفو على بحيرات من الغضب والسلاح، يغذي كل بحيرة نبعان أو أكثر، فالسعودية مهددة بنبعين من السلاح والغضب في العراق واليمن، ومصر بين نبعين من السلاح والغضب في ليبيا وسيناء، والجزائر بين نبعين من السلاح والغضب في ليبيا ومالي، فتوشك أن تشتعل هذه البلاد، وحين تشتعل، فإن نارها ستكون أعلى من نار سوريا والعراق، وسيحس العالم حرها من المحيط إلى المحيط، حتى تجفل الشمس جفل الغزالة مما ترى، ويحمر القمر.
 
إن كافة المنطقة تذوب. الدولة العربية التي بناها الغزاة تموت،  هذه الكيانات التي ورثت الأمة وقطعتها ولخصتها ولم تأتنا إلا بالهزائم والبلايا هي الجحيم، هي وادي جهنم، القريب من المكان المقدس، ولكن يحرق فيه الأطفال لإسترضاء الأوثان والشياطين والملوك، ورؤساء الجمهورية ومدراء الأمن ومأموري الشرطة.

إنني أرى مظاهرة نفعل فيها كما فعل إرمياء النبي، نكسر أباريق الفخار. فمن ذلك إنذار، ومنه أن لكسر الفخار معنى آخر في عاداتنا، فهو فرح برحيل الشر، فلتذهب النار إلى النار، والجحيم إلى الجحيم، ولو أتت بعدها جحيم أخرى، فإننا لا نأبه، نحن ميتون في الحالين، لكننا نفضل، إن كنا سنموت، أن تموتي أنت أيضا، أيتها الجحيم ذات الرايات والأختام والمكاتب والرتب، يا بئرا بعيدة القعر، تظن نفسها جبلاً، يا مخروطاً قاعه الشيطان، أيتها العين الحمراء المريضة المحدقة دوماً. أيتها الجحيم، يا وادي الطبول والنار، إنك دائما ما تنسين، ودائما على الأنبياء الصائحين في البرية أن يذكروك، أن النار، لا بد، مهما أكلت، أن تأكل نفسها في آخر الأمر.

حرب اليمن

05-Apr-15 06:23 AM
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع