بمجرد إصدار "
تنظيم الدولة" الفيديو الذي يظهر جريمة إحراق الطيار الأردني "
معاذ الكساسبة" قبل أشهر، بدأت عملية ممنهجة "لإحراق" شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتراثه الفقهي ولم تنته إلى اليوم.
وقد تمثلت بهجوم كبير في وسائل الإعلام، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبار أن
ابن تيمية وفق وجهة نظر المهاجمين له هو "الداعشي الأول"، أو "منبع الفكر المتطرف الذي تستقي منه حركات السلفية الجهادية، وعلى رأسها تنظيم الدولة".
وعلى الرغم من أن هذه الحملة اتكأت على نص مجتزأ من فتوى لابن تيمية "تجيز التمثيل بقتلى الكفار من باب القصاص والزجر" نشر مع فيديو إحراق الكساسبة، إلا أنها في الحقيقة تظهر نقاشا ساخنا ربما لم يجد فرصته الكاملة للظهور إلى العلن، حول
التراث الإسلامي، وخصوصا فتاوى ابن تيمية، ودورها في "تسليح" الجماعات المتطرفة بتأصيل شرعي، يساهم من جهة في إقناع وتعبئة المنتمين لهذه الجماعات، ومن جهة أخرى في خلق رأي عام مؤيد لها في صفوف المسلمين، الذين لا تزال غالبيتهم العظمى تحكم على التطورات من زاوية مطابقتها او مخالفتها لما يعتقدون أنه "أحكام الدين".
وقد كان من الممكن أن تمثل التطورات الأخيرة "فرصة" لتعميق هذا النقاش وترشيده بهدف الوصول إلى استنتاجات مهمة، تساهم في بناء وعي جمعي للتعاطي مع الفتاوى التي أنتجها الفقه الإسلامي عبر العصور، وتحرير الإسلام من الفهم المتطرف لنصوصه وأحكامه، ولكن طريقة الهجوم التي شنها كتاب ومثقفون ونشطاء ينتمي أغلبهم للتيار العلماني حولت هذا النقاش إلى عملية لتصفية حساب مع ابن تيمية والتراث الفقهي الإسلامي، ومحاولة ضمنية وأحيانا صريحة لإحراق هذا التراث، وفق تشبيه أحد الكتاب الذي دعا طلاب الجامعات إلى التوجه للمكتبات الجامعية وإحراق كتب ابن تيمية.
وفي الحديث عن "إحراق" ابن تيمية وتراثه، يمكن القول أن هناك فريقين يمارسان إحراق الرجل، في توافق غريب بينهما، برغم الاختلاف الجذري الظاهري بين الفريقين. ونقصد بالفريق الأول أولئك الذين اتهموا شيخ الإسلام بأقذع الصفات، ووصفوه بالتطرف والـ"داعشية" والإجرام، فيما يمثل الفريق الثاني غالبية السلفيين الذين يضفون على تراثه هالة من القداسة غير القابلة للنقاش، ويصرون على الاحتكام إلى فتاويه دون تغيير بعد ما يقرب من ثمانية قرون على وفاته، دون أخذ الفارق الزمني بين هذا الفتاوى والعصر الذي نعيشه بعين الاعتبار.
ويشترك الفريقان في ارتكاب "خطيئة" منهجية في قراءة تراث ابن تيمية، والفقه الإسلامي عموما، ونقصد هنا خطيئة نزع التراث من "تاريخيته" وسياقاته الزمانية والمكانية والسياسية والاجتماعية، ويتناسى الفريقان أن أي فتوى دينية هي ابنة بيئتها، تتأثر بالواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه "المفتي" على الصعيدين الشخصي والعام، كما أنها تتأثر بالصيرورة التاريخية للتطور البشري برمته.
وعندما يسلط مخالفو ابن تيمية سيوف نقدهم واتهاماتهم –وأحيانا شتائمهم- للرجل، فإنهم يخالفون شرطا أساسيا من شروط الموضوعية في الحكم على ممارسات أي تجمع بشري في الماضي، ونقصد بهذا الشرط ضرورة قراءة الممارسات والأفكار التاريخية و"محاكمتها" وفق القيم التي كانت سائدة في وقتها، وليس القيم التي توصلت إليها الإنسانية في وقتنا الحاضر، إذ أن مقارنة الممارسات والفتاوى والأفكار التي ظهرت في الماضي يمكن أن تشكل مدخلا لفهم الفارق الحضاري بين مرحلتين زمنيتين فقط، ولكنها لا تمثل بأي حال مدخلا علميا للحكم على التراث الذي يجب أن يقارن بما توصلت إليه الحضارة الإنسانية في وقته، لا وقتنا الراهن.
وقد كان هذا الخطأ المنهجي أداة في يد كثير من المستشرقين الذين حاولوا الإساءة للإسلام من خلال الحكم على بعض الممارسات التاريخية للدولة "الإسلامية" وفق معايير عصر ما بعد الحداثة، واستنادا لقيم "القانون الإنساني الدولي" الذي تم الوصول إليه في القرن العشرين، بعد أربعة عشر قرنا من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيما تقتضي الموضوعية مقارنة ما ساهم به الإسلام من احترام للبشر والقيم الإنسانية "والحقوقية" بما كان كان قائما في العصر الجاهلي، ليدرك أي منصف أن الإسلام كان في الواقع ثورة على قيم احتقار الإنسان واستعباده.
وإذا اتبعنا نفس هذه القاعدة المنهجية، فإن محاولة البعض الحكم على تراث ابن تيمية بعيدا عن سياقه التاريخي، وعن الظروف التي كانت تمر بها "الأمة" المسلمة في عصره، هي بالحقيقة نوع من التعسف في قراءة التاريخ والتراث.
ولكن التعسف في قراءة تراث ابن تيمية لا يقتصر على الفريق المعارض له، بل إن هناك فريقا آخر لا يقل تعسفا عنه في التعامل مع هذا التراث، وهو الجماعات السلفية التي تريد رهن الأمة لفتاوى صدرت قبل مئات السنين، دون الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي نعيشها، والتي تقتضي أن يرجع في "النوازل" إلى العلماء المسلمين الذين يعيشون هذا العصر، ويدركون أدواته وتطوراته، ويعلمون واقع المسلمين في عالم اليوم.
وعلاوة على ذلك، فإن المبدأ الأساسي الثابت في العلاقة بين الدين والحياة، هو أن الإسلام يأمر بتقدير الأمور وفق مصلحة الناس بما لا يتعارض مع الأصول الدينية الثابتة، وهو ما يمكن أن يعبر عنه بالمصطلح الشرعي "مقاصد الشريعة": حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والعرض، والمال. ومن الواضح والمنطقي أن أهل العصر الذي نعيشه من المختصين هم الأقدر على معرفة مصلحة الناس من أهل العصور السابقة التي تختلف ظروف حياتها عن ظروف حياتنا، وبالتالي يختلف تقدير مصلحتهم عن تقدير مصالحنا في العصر الحالي.
وإذا كان أحد المبادئ الأساسية للسلفية هو عدم الخضوع للمذاهب الفقهية المعروفة، والاستناد إلى مصادر التشريع الأساسية في الإسلام للحصول على الأحكام الشرعية، فقد حول أتباع السلفية فتاوى ابن تيمية ومن بعده فتاوى علماء الوهابية إلى مذهب لا يمكن الحياد عنه، وهو ما يشكل تناقضا مع المبادئ السلفية. كما أن القاعدة "الذهبية" للسلفية القائلة "كل يؤخذ من كلامه ويرد" تقتضي أن العصمة هي للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يخالف فريق من السلفية هذه القاعدة، عمليا، برفض أي نقد أو انتقاد لابن تيمية.
وإذا رجعنا إلى التاريخ الإسلامي، فسنجد أن الخلفاء الراشدين مارسوا بعض الممارسات التي تختلف تماما مع ممارسات تمت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ تعامل هؤلاء الخلفاء مع واقعهم ضمن ما تقتضيه التغيرات التي عايشوها، والأزمات التي تعرضوا لها أثناء مارستهم للحكم. فإذا كان هذا هو الحال مع الخلفاء الذين كانوا قريبي العهد مع النبي الكريم، فكيف يحجر على مسلمي اليوم مخالفة فتاوى صدرت قبل مئات السنين.
إن الدفاع عن ابن تيمية في مواجهة من وجدوا الفرصة سانحة للهجوم عليه و"إحراقه" لا تكون بإضفاء قداسة على تراثه وفتاويه، وإنما بفهم الثورة الحقيقية التي مثلها في مجال الاجتهاد في الفقه في وقته، وبإدراك أن ابن تيمية لو أضفى قداسة على تراث من سبقوه، لما برز في عالم الاجتهاد، ولما أطلق عليه معاصروه لقب "شيخ الإسلام".
خلاصة القول، إن المعركة الآن يجب أن لا تتوجه لإحراق التراث بشخوصه وعلمائه وإنتاجه الفقهي، ولا لمحاربة ومنع النقاش حوله ونقده وعرضه على القيم التي توصلت إليها البشرية، بما لا يتعارض مع روح الدين ومبادئه وأصوله الثابتة، بل إلى إعادة دراسته وتحيينه وفق التطوات التي نعيشها في عصرنا الحاضر. وإن الجهد الحقيقي لحماية الدين ممن يحاولون أخذه رهينة لممارساتهم وأفكارهم ومصالحهم، يجب أن يعمل بعيدا عن التشنج وتصفية الحسابات في اتجاهين: الأول هو صيانة الحاضر من الانقياد للتراث البشري الماضي، الذي يظل بشريا وخاضعا للخطأ والصواب، والثاني هو التأكيد على أن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان باعتباره خاتم الأديان، تعني في الحقيقة صلاحية الدين ونصوصه الثابتة قطعيا لا صلاحية التفسير البشري لهذه النصوص، لأن هذا التفسير خاضع لأدوات العصر وظروفه وللسياقات التاريخية التي أنتج فيها.