أسفر المشهد في منطقة الشرق الأوسط بعد انطلاق ما سمي بالربيع العربي عن تشكل ثلاث تكتلات إقليمية رئيسية، أولها المحور الإيراني ومعه سوريا وحزب الله وفصائل شيعية في
العراق واليمن، وثانيها محور الثورة المضادة (الاعتدال العربي حسب تصنيفات ما قبل الربيع العربي)، وثالثها المحور التركي القطري الذي تحالف مع الإخوان المسلمين. لقد استطاع المحور الإيراني أن يصمد في سوريا ولبنان وأن يتقدم في العراق واليمن حتى الآن. كما استطاع محور الثورة المضادة أن يسترجع قواه في
مصر وتونس وأن يكسر موجة الثورات قبل أن تصل الخليج والأردن. أما المحور التركي القطري فقد راهن على نجاح الثورات وتقدم الإسلاميين على إثر ذلك، إلا أن رهانه قد فشل. ففي حين افترق المحوران السابقان (الإيراني والثورة المضادة) في كل شيء تقريبا إلا أنهما اتفقا على إفشال الإخوان وموجة التغيير التي كانت تسير لصالحهم.
اليوم يمكننا أن نقول إن المنطقة في طريقها لعودة مشهد تقليدي بمحورين أساسيين؛ إيراني يضم سوريا والعراق وحزب الله، وعربي متقارب مع تركيا. يضاف لهذا المشهد عامل جديد ومؤثر وهو التقارب الإيراني الأمريكي الأخير حول ملف إيران النووي، الأمر الذي سيعقد المشهد أكثر فأكثر. الفاعل الآخر هو تنظيم داعش الذي يسيطر على مساحة ليست بالقليلة في العراق وسوريا والذي بات هدفاً لكل الأطراف وكأنه ذريعة كل أحد للتدخل في أي مكان. وتبقى إسرائيل التي ترقب المشهد بدقة وتتدخل بشكل مباشر حين يتعلق الأمر بأمنها وبدون تردد، حيث فعلت ذلك مرارا في سوريا ولبنان وغيرهما.
الأردن المنضوي تحت محور الاعتدال العربي تقليديا يجد نفسه أمام معادلة صعبة للغاية في ظل احتدام الصراع على سوريا بين المحورين الأساسيين. فهو محاط من كل الجهات بحروب فعلية مشتعلة على الأرض ويشارك بجزء منها. مع ذلك فإن تغيراً ملموساً قد بدا مؤخرا على سلوك الأردن تجاه إيران. الأمر الذي قد يفسر على أن الأردن لديه تخوف حقيقي مبني على تقدير للموقف بأن المحور الإيراني يتقدم في محورين على الأقل (العراق واليمن) ويكافح ويصمد في الثالث. خاصة مع ورود أنباء عن نشر قوات إيرانية وموالية لها في جنوب سوريا المتاخم للأردن. ففي حين ترسل إيران قوات وخبراء وأسلحة إلى جبهات القتال في العراق واليمن وسوريا، ما زال العرب وحتى الأتراك يفضلون الفعل غير المباشر إما عبر التحالف الدولي أو عن طريق دعم الجماعات المسلحة في سوريا. وحتى في حالة التحالف الدولي، فإن تراجع داعش –وهو الأرجح- سيكون في صالح إيران المستعدة دوما لملأ الفراغ. لقد نجحت إيران أن تحول نفوذها في المنطقة إلى أوراق تفاوض مع الولايات المتحدة والغرب. الأمر الذي إذا ما أسفر عن توقيع لاتفاق نوويا مع الغرب سيساهم على المدى المتوسط بتخفيف الحصار الاقتصادي عن إيران ويعترف بها قوة إقليمية رئيسية. لقد راهن البعض على دخول إيران في حالة استنزاف بسبب حروبها وأزمتها الاقتصادية، لكن الاحتمالات ما زالت مفتوحة على كل الاصعدة وما زالت إيران مستعدة لخوض معاركها على ما يبدو.
وفي ظل هذا الوضع الحساس وغير المستقر، مُني الإخوان في المنطقة بضربة مؤلمة للغاية بدأت من مصر منذ انقلاب 30 يونيو مروراً بتنحي النهضة عن السلطة في تونس إلى سيطرة الحوثيين على معظم
اليمن على حساب قوى الثورة وأبرزها حزب الاصلاح حتى الاقتتال في ليبيا الذي فوت فرصة استقرار كانت ستصب في صالح الإسلاميين هناك. كما جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لتزيد الضغط على حماس والقطاع الذي تديره.
في الأردن، ورغم محاولة الإخوان استثمار أجواء الربيع العربي في بدايتها لتحسين ظروف المعادلة مع النظام هناك، إلا أنهم فشلوا في تحقيق ذلك وسارعتهم الثورة المضادة والحرب في سوريا لتقلب المعادلة تماما. مع ذلك، لم تقدم الدولة
الاردنية على مقاربة راديكالية مع الإخوان كالتي فعلتها مصر وبعض دول الخليج. وإنما اكتفى النظام بالتراجع التدريجي عن وعود ومقدمات الإصلاح التي قدمتها في بداية الربيع العربي. كما وبدأت بمحاصرة الحركة الإسلامية ومحاولة استنزافها شيئا فشيئا. ولعل الذي دفع الدولة لعدم توجيه ضربة مباشرة للإخوان يعود لأسباب عدة: لعل أبرزها أن لدى النظام في الأردن تقديراً دقيقاً للوضع الداخلي للإخوان ومدى عمق الأزمة التي يعاني منها الإخوان. وليس أقلها حالة الشرخ العميق في نخبتها القيادية والتي تأزمت في الفترات الأخيرة بعد ما عرف بقضية زمزم وقضية إعادة ترخيص الجماعة. بدا واضحاً لدى الدولة أن انسداد الأفق السياسي أمام الإخوان سينعكس عليهم داخلياً وهو ما يحدث بالفعل. لكن السؤال المطروح اليوم: هل تغيرت قواعد اللعبة بين النظام والإخوان في الأردن لتصل إلى أن يقدم النظام على شطب الإخوان أو إضعافهم بشكل كبير؟ الباعث الأساسي للجواب بنعم أمران اثنان: أولهما أن النظام بات مقتنعاً بعد سلوك الإخوان في بداية الربيع العربي أنهم قد يشكلوا في مرحلة من المراحل تهديداً له وبديلاً عنه، لإنهم باختصار قد فعلوها في مصر وتونس وغيرها. فهم من حيث الاحتمالية مستعدون لذلك. أما الثاني، وقد يبدو متناقضاً مع الأول وهو ليس كذلك، أن الإخوان في المنطقة في حالة ضعف واستهداف غير مسبوقة. لذا يبدو أن النظام يرى أن فرصة تقليم الأظافر وإعادة صوغ معادلات جديدة باتت سانحة وبأقل الكلف المحتملة. ويضاف إلى ذلك أن دور الإخوان بشكل عام في المشهد الإقليمي الذي ذكر في مقدمة المقال ضعيف جدا.
فهم لا يملكون أي أوراق لا في سوريا ولا العراق ولا اليمن (حتى الآن). كما أنهم لم يستطيعوا أن يكسروا الانقلاب في مصر وأن كانوا لم يستسلموا بعد. ومما يبرهن على تغير نظرة النظام الأردني للإخوان وقوتهم وتأثيرهم، إقدامه على جملة من المسارات والسياسات دون أي اعتبار لأي معارضة تذكر؛ كتحالفه القوي مع نظام السيسي، وتحسين العلاقة مع إسرائيل بتوقيع اتفاق قناة البحرين معها، ومشاركته المتقدمة في التحالف الدولي بالإضافة لسياساته الداخلية المتعلقة بالوضع السياسي والاقتصادي. وهي أمور من المفترض أن تستفز الإخوان لمعارضتها ومنع وقوعها.
لعله من البديهي أن يطرح هنا سؤال حول ما يجب أن يقوم به إخوان الأردن في ظل الأزمة التي يعيشونها اليوم. تكتب هذه السطور اليوم لعل الإخوان في الأردن يضعوا أزمتهم في سياقها الإقليمي وأن لا يقتصروها على خلافات داخلية لا تنتهي بين نخبتهم القيادية. لعل المطلوب اليوم من جميع الأطراف في الجماعة بدأ من القيادة التي تتحمل مسوؤليتها أن تنظر للأزمة هذه المرة بنظرة أخرى تغيرت فيها الظروف، وفي ظل مشهد اقليمي مشتعل وحروب طاحنة لا ترحم أحداً. لعل كاتب المقال لا يرى أن الدولة الأردنية ستتراجع عن مسارها الحالي مع الإخوان، فهذه فرصة قد لا تتكرر. إلا أن هذا مرهون بموقف قيادة الإخوان اليوم وأسلوب إدارتها للأزمة. ولعل أوجب ما يمكن فعله اليوم مجموعة من الإجراءات الجذرية والحقيقة التي تعيد وحدة الصف الداخلي للجماعة وتجمع شتاتها وكفاءاتها، وأن لا تقتصر الإجراءات على أمور شكلية لا تلمس جذور المشكلة. لعل الإخوان في الأردن مطالبين اليوم أكثر من أي وقت مضى لحركة تصحيحة تشمل الشكل والمضمون، الفكر والممارسة وتجيب عن أسئلة كثيرة معلقة في أذهان كوادرها ومجتمعها.