يتوق الإنسان عادة إلى العيش في أمان بعيدا عن مصادر التهديد والقلق، وطالما أن "المجتمعية" هي جوهر "الإنسانية " وطبيعتها نجد حاجة الإنسان متعاظمة لقوة تحميه وتشعره بالأمن، طالما أن هناك أخطارا محتملة قد تطاله فالأمن ضد الخوف والخوف مكمنه الإحساس بالخطر.
وعلى الرغم من حداثة مصطلح "
الأمن" الذي يعود استخدامه إلى نهاية
الحرب العالمية الثانية عندما ظهرت أدبيات تبحث في كيفية تحقيق الأمن وتلافي الحرب، وكان من نتائجه بروز نظريات الردع والتوازن، ثم أنشئ مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 1974م، ومنذ ذلك التاريخ انتشر استخدام مفهوم "الأمن" بمستوياته المختلفة.
وقد عرفت دائرة المعارف البريطانية الأمن على أنه "حماية الأمة من خطر
القهر على يد قوة أجنبية"، وهو بالطبع تعريف قاصر إذا أخذنا بعين الاعتبار حماية الأمة من الخطر الداخلي، وعدم شمول المصطلح لمفردات الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي ..الخ
ومع التطور المتلاحق والسريع للمجتمعات على مستوي التحديات والتهديدات والفرص التي تواجه الإنسان بصفته محور الكون ومحل اهتمام عمليات
التنمية، ونظرا لظهور مجموعة من المتغيرات الاقتصادية، والعسكرية، والجيواستراتيجية، والبيئية، التي أدت في النهاية إلى إحداث طفرة في طبيعة التهديدات على المستويين المحلي والدولي الأمر الذي استدعى إعادة النظر في المفهوم التقليدي للأمن.
وتماشيا مع طبيعة التهديدات التي أملتها تلك المتغيرات، تبنت تقارير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة بدءًا من العام 1994، مصطلحا مغايرا للتعريفات التي تعتمدها الدول في تعريفها للأمن، حيث دأبت الأخيرة على اختزاله وقصره على المخاطر والتّهديدات التي تحيط بأمن الكيان والنظام بسلطته ومؤسساته وسيادته، متجاهلة بالقصد والتّرصد أمن المواطن واستقراره، ما حدا بمحبوب الحق الوزير الباكستاني السابق وبرعاية "اماراتيا صن" الحائز على جائزة نوبل إلى ابتكار مصطلح "الأمن الإنساني" الذي يتجه للتركيز على عقبات تنمية الإنسان وعلى المخاطر التي تهدد أمنه وكيانه وتحد من إمكانيات تطوره، فهو وفق الحداثة المصطلحية حالة شعورية من الرضا النفسي الناشئ عن سيادة الحق والقانون التي تعني ضمان حقوق الفرد و المجتمع وحرية التفكير والتعبير وحفظ الكرامة الإنسانية والتساوي في الفرص، وقد انصبت الجهود على التركيز في مسارين كمدرستين لبلوغ هذه الحالة،
الأولى: التحرر من الخوف (freedom of fear ) والثانية: التحرر من الفقر (freedom of want ) على اعتبار أنهما في النهاية يوصلان إلى الأهداف المرجوة ذاتها في حال سيادة مفهوم الأمن الإنساني الذي ينبغي وفقا لتقرير الأمم المتحدة توسيع نطاقه ليشمل التهديدات في سبعة مجالات هي:
• الأمن الاقتصادي: ويتطلب وجود دخل مضمون للأفراد من عمل منتج ومجزٍ؛ إذ إن البطالة سبب أساسي في التوترات السياسية والعرقية
• الأمن الغذائي: يتطلب أن يكون جميع الناس في جميع الأوقات لديهم قدرة شرائية يستطيعون من خلالها الحصول على المواد الغذائية الأساسية.
• الأمن الصحي: يهدف إلى ضمان الحد الأدنى من الحماية من الأمراض، وأنماط الحياة غير الصحية
• الأمن البيئي: يهدف إلى حماية الناس من ويلات تدهور البيئة الطبيعية. ففي البلدان النامية يعد عدم الوصول إلى موارد المياه النظيفة هي واحدة من أعظم التهديدات البيئية.
• الأمن الشخصي: يهدف إلى حماية الناس من العنف الجسدي وأكبر مصدر للقلق هو الجريمة، وخاصة الجرائم العنيفة.
• الأمن المجتمعي: يهدف إلى حماية الناس من العنف والطائفية والعرقية وفقدان العلاقات والقيم التقليدية.
• الأمن السياسي :الذي يضمن للبشر العيش في كنف مجتمع يضمن ويُرَقِي حقوق الإنسان.
وقد كان سعي الأمم المتحدة دؤوبا لبلورة تلك النظرية في إجراءات وخطط وبرامج بل ودمج هذا المفهوم في كافة أنشطتها فأنشأت لهذا الغرض "وحدة الأمن الإنساني" في العام 2004 في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، بل حظي مفهوم "الأمن الإنساني" باهتمام دولي كبير في السنوات الأخيرة، فنشأت شبكات دولية وإقليمية ومحلية لتنشيط هذا المفهوم واعتماد تطبيقاته في دول العالم المختلفة، وتعدّ دول مثل كندا والنرويج وسويسرا واليابان على رأس الدول المهتمة بهذا التوجه.
وفي تقديري أن الدول العربية لديها مشكلة حقيقية في تطبيقات مفهوم الأمن الذي تقصره قصدا على حماية السلطة المستبدة وخياراتها القمعية، الأمر الذي يجعل تجول الإنسان العربي بين تقارير الأمم المتحدة والدراسات الأكاديمية المهتمة بالأمن الإنساني دربا من السباحة في فضاء المعاني الرحب المنبت الصلة بأرض الواقع، لماذا؟ لأن الدول العربية تهتم فقط بتوفيق أوضاعها ورقيا مع المنظمات الدولية دون أن يكون هناك مردود حقيقي للتوجهات العالمية لإرساء نماذج أكثر احتراما لحقوق الإنسان تلبية لتطلعاته في العيش الحر الكريم الآمن.
ولعل الوضع المصري أكثر دلالة على ما تقدم؛ إذ إن السلطة العسكرية تماطل بكل الطرق منذ ثورة يناير حتى الآن في تحقيق بنود (العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ) التي نادى بها الشعب وثار من أجلها في وجه مبارك ونظامه الاستبدادي، إذ إن ما يهم السلطة الجديدة فقط هو توفيق أوضاعها الحقوقية شكليا، وأشير في هذا الصدد إلى الفرحة الغامرة التي كست قادة الانقلاب ومنتسبيه والزفة الإعلامية التي اعتماد المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقرير المراجعة الدورية الشاملة لمصر دون أن يكون لهذه المراجعة أي صدا على ارض الواقع .
يخطئ بالطبع من يعتقد أن المجلس العسكري غفل لحظة واحدة عن تحمل "أمانة" العمل بالتفويض الذي منحة له مبارك في 11 فبراير 2011 وحتى لحظة النطق بالحكم ببراءته وبراءة معاونيه، وهي براءة بالأصالة للمجلس ولكل قادته من تلك الممارسات التي يمكن أن تصنف في خانة الاتهامات الموجهة ذاتها إلى الرئيس المخلوع ورفاقه، مرورا بآلاف التفاصيل التي يراها الجنرالات على أنها جاءت على سبيل الخداع الاستراتيجي وتنفيذ لاستراتيجية "الأسد لا يأكل أولاده"، وإن تم تصنيف بعضها من بعض "المناوئين" المحليين أو الدوليين غير الرسميين على أنها جرائم ضد الإنسانية طالما أنهم يملكون القوة ومفتاح مخاطبة المستويات الرسمية دوليا في قضايا أهم بالنسبة لهم كقضايا "الإرهاب" .
لقد كان العسكر في تقديري أكثر تشبثا بفكرتهم وأعظم إيمانا بها وأخلص لقائدهم "مبارك" من هؤلاء الثوار الذين فرقتهم المغانم فخانوا مبادئ الثورة وتنكروا لدماء الشهداء حتى صار الحال إلى ما نرى تكريسا للظلم وتوزيعا للقهر والاستبداد في مقابل تواري مفهوم حقوق الإنسان وأمنه .
كل يوم تطالعنا الأنباء بقوائم الإغلاق والمصادرة بين إغلاق قنوات وميادين ومحطات مترو ومساجد ومؤسسات مجتمع مدني، إلى مصادرة أموال وشركات وصحف، وأفكار المدرعات والدبابات والمركبات العسكرية أصبحت مشهدا ثقيلا جاثما على صدر المدينة والقرية والحارة والزقاق المصري، انصرفت قوات الأمن عن "توفير الأمن" إلى "توزع القهر"، كما انصرفت الدولة عن "توفير الخبز" إلى "توزيع الغاز الخانق والخرطوش والحي".