تسمية "إعلام
العار" هي تسمية خرجت من رحم الثورة
التونسية. فحينما كان قنّاصة الأمن من قوات بن علي وأجهزة أخرى يقنصون التونسيين في الشوارع كان إعلام تونس الخاص والعمومي يصف المتظاهرين بالمخربين والأوباش وحتى بالإرهابيين. هكذا لعب الإعلام التونسي أقذر الأدوار خلال عقود الاستبداد التي غطاها حكم الوكيل الأول بورقيبة 1956-1987 والوكيل الثاني "بن علي" 1987-2010 وذلك عبر الوظائف الخطيرة التي أنيطت بعهدته والتي أنجزها على أحسن وجه. فبقطع النظر عن تبييض الاستبداد والتشريع لجرائم الأنظمة القمعية ولممارسات النظام الوحشية خاصة خلال فترة التسعينات من القرن الماضي، مارس الإعلام التونسي كل وظائف التغييب الممكنة عبر محاربة جميع الأصوات الداعية للتحرر و للتغيير الحقيقي ولاستعادة كرامة المواطن وسيادة الوطن من أيدي حفنة اللصوص التي كانت تحكم تونس ولازلت تحكمها إلى اليوم.
فبعد ثورة مباركة تمكنت عبرها الجماهير من إسقاط رأس النظام يعود الإعلام التونسي الخاص منه والعمومي إلى ممارسة نفس الأدوار القذرة عبر محاربة الثورة أو ما تبقى منها، ورفع فزاعة الإرهاب ومساندة الدولة العميقة لتمكين عودة الاستبداد عبر بث الإشاعات ومحاربة الهوية وتأثيث المنابر بكل أنواع المخبرين ورجال العصابات وأشباه المثقفين من النخب التونسية المتعفنة والمنبتة عن هويتها وعن أصولها. لكن الأخطر اليوم هو بلوغ هذه المنابر مستويات متقدمة في محاربة الهوية واستئصال مقومات الانتماء العربي الإسلامي لشعب تونس وذلك عبر تقنيات مختلفة تطورت مثل بث أفلام موغلة في الإلحاد أمام جماهير محافظة في أغلبها مثل بث قناة خاصة فلم "برسبولبس أو بلاد فارس" الإيراني المجسد للذات الإلهية خلال الثورة أو خلق منابر حوارية تحلل الزنا والرذيلة والخمر في محاربة صريحة وصادمة لهوية الدولة وفي خرق واضح للدستور، ولمبدأ السيادة الوطنية واحترام معتقدات الشعب.
الكارثة هو أن اغلب هذه المنابر يؤثثها إعلاميو "بن على" الذين تخرجوا من مدرسة "وكالة الاتصال الخارجي" الشهيرة وعلى رأسها "غوبلز" تونس وزير الإعلام السابق في عهد الرئيس الهارب. هؤلاء الذين احتلوا مساحات النقاش والتحليل على أغلب الشاشات والإذاعات العمومية والخاصة لا ينكرون انتماءهم للنظام القديم وارتباطهم الوثيق برجال الثورة المضادة من بارونات الأعمال ورجال السطو المنظم ووكلاء شركات النهب العالمية في تونس. فقد أثبتت تسريبات كثيرة لم يدحضها أحدٌ العلاقات المريبة بين إعلاميين كثر وسفارات أجنبية تسهر على توفير الدعم المالي واللوجستي لهؤلاء مقابل خدمات خاصة وحملات إعلامية مدفوعة الأجر.
تزييف الوعي وتشغيل كل آليات التغييب الممنهج هندسيا ووظيفيا هي الشغل الشاغل والهدف المركزي لإعلام تونس بعد الثورة باعتباره وريثا شرعيا لإعلام الاستبداد ونائبا مباشرا لدولة العمق، وقد ساهم بشكل كبير في إسقاط حكومات شرعية وفي إشعال الشارع التونسي الملتهب أصلا بعد الثورة ونشر كل أنواع الأزمات والحرائق من أجل الحد قدر الإمكان من رياح التغيير القادمة. لكن الملف الأبرز والورقة الرئيسية في يد الإعلام التونسي هو ملف "الإرهاب" و"الجماعات الإرهابية" في رجْع صدى مريب لمحطات الإعلام الأمريكي والصهيوني. فبقطع النظر عن استثمار هذا الملف لغير ما هو معلن أي لغير محاربة الإرهاب فان إعلام تونس يكاد يكون صانعا أساسيا للإرهاب نفسه وليس الإرهاب التونسي شبيها بإرهاب مناطق أخرى من الخارطة العربية المشتعلة بل هو أساسا إرهاب اجتماعي واقتصادي يلعب فيه "إعلام العار الوطني" دورا مركزيا.
يتأسس الإرهاب الاجتماعي أساسا على إشعال الحرائق الاجتماعية في كل القطاعات والمجالات الحياتية للمجتمع والدولة، وليس آخرها إلا إضراب قطاع التعليم الذي تسبب لأول مرة في تاريخ البلاد في تأجيل الامتحانات الأساسية لكل تلاميذ المرحلة الثانوية وهي حرائق قادها منذ فجر الثورة "الاتحاد العام التونسي للشغل" وقد تحول من مدافع عن قضايا العمال كما كان زمن الشهيد فرحات حشاد إلى وكر من أوكار العصابات المتاجرة بدماء الشغالين وعرقهم. لكن ما لم تذكره الصحافة ولن تذكره هو ما بلغه مستوى التعليم في تونس من مستويات مفزعة فلا تسأل عن ترتيب الجامعات التونسية وهي في أسفل السلم الإفريقي، ولا تسأل عن استشراء التعليم الخاص والتدمير الممنهج للتعليم العمومي، وارتباط النجاح ارتباطا وثيقا بالدروس الخصوصية التي أصبح يتوقف عليها نجاح التلميذ من عدمه. أما الإرهاب الاقتصادي والمالي المسكوت عنه في إعلام العار التونسي فيتمثل في حجم الأموال المنهوبة والمهربة إلى البنوك الأجنبية، والتي فضحت التسريبات السويسرية الأخيرة جزءا يسيرا من المليارات المسروقة إلى جانب العقود النفطية والحقول المفتوحة على النهب والاستغلال الفاحش من قبل الشركات الأجنبية وبرعاية وكلاء الداخل ولصوص العقود والاتفاقيات.
لكن ذاكرة التونسيين ستحتفظ طويلا بنوادر كثيرة من نوادر الإعلام الوطني مثل جلب أحد جلادي "بن علي" على المباشر وهو يروي كيف كان يتقن مهنة التعذيب ويتفنن فيها مخاطبا ضحاياه "وبعد ما أنتم فاعلون؟" وهو يعلم مسبقا أنه فوق القضاء وفوق القانون وفوق المحاسبة. نادرة أخرى تتمثل في إرهابي ملثم قادم من سوريا وهو يتحدث عن جهاد النكاح فثبت بعدها أنه لم يغادر قريته الصغيرة في الوسط التونسي الفقير منذ ولادته ولا يملك حتى جواز سفر.
إعلام تونس مثل كل الإعلام الرسمي العربي، جزء أصيل ووثيق من النسق الاستبدادي نفسه، وهو أخطر على الوطن من الجماعات المسلحة ولا يمر طريق التغيير الحقيقي إلا عبر تحييد خطاب الإعلام العربي الحالي وتحريره من قيود المال والسياسة والأمن والعسكر وتحقيق ثورة حقيقية في الدور والوظيفة التي يجب أن يضطلع بها الإعلام في دولة العدالة الاجتماعية.