كتب نبيل بومنصف: لا تقتصر "فتوحات" تنظيم
داعش الزاحفة على تهجير الأقلية الآشورية في سوريا حالياً فحسب، إنما أيضاً على إثبات حقيقة مفجعة متكررة ستقضي قضاء مبرماً على ما تبقى من "إيمان" الأقليات عموماً والمسيحية خصوصاً، بما يسمى المجتمع الدولي وبالأخص الغربي في إنقاذها من براثن المغول الجدد.
لا حاجة إلى التبحّر في الأسباب التاريخية التي زالت معها نظرية الحمايات الغربية للأقليات في الشرق الأوسط، خصوصاً مع السياسة الأمريكية الراهنة، التي تطبخ الشرق الأوسط على نار انتظار التسوية مع العملاق
الإيراني، وعبثاأ أي استنتاج آخر للتمادي في ترك داعش يفترس ضحاياه تحت جنح الحملات الجوية العقيمة.
ولكن ما يعني
اللبنانيين الذين يبدون الأشد تأثراً في رؤية أقليات تذوق مر كأس مرت بهم، ولو بتفاوت درجات الوحشية، هو استخلاص الدروس الفورية والتحسب لكل الاحتمالات وعدم النوم على حرير الأوهام القاتلة. هذا الغرب الحالي سقط سقوطه المدوي أساساً في حماية الإسلام المعتدل أيضاً.
وإذا أسقطنا نظرية التواطؤ، فإن الغرب فشل أيضاً في تنصيب نفسه حامياً للبشرية، ضد المجازر والمذابح والفظاعات التي ترتكب على أيدي الدواعش وكذلك على أيدي النظام السوري. وها هي الشهادات الموثقة للهيئات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، عشية طي السنة الرابعة من الحرب السورية، بمنزلة أحكام قاطعة على هذا الفشل.
في العقود الأخيرة، برزت أقليتان عرفتا كيف تواجهان التخلي الدولي والغربي عن حماية الأقليات هما الأكراد راهناً، ومسيحيو لبنان عام 1975 وبعده. لقد أزيلت الأقليات
المسيحية الأكثر تجذراً في الشرق من العراق، ولم يرف جفن في الغرب لهذا التطور المرعب. ويجري الآن تمديد هذه الصحراء الحضارية في سوريا والحسكة تحديداً، وبالكاد تقابل الفظاعات الجارية ببيانات استنكارات سخيفة لغسل الأيدي الغربية من تبعة الجريمة الإنسانية والحضارية.
وإذا كان من الصعوبة إطلاق الأحكام من بعد على وقوف معظم الأقليات في سوريا مع النظام، فإن ذلك لا يسقط واقعاً يثبت أن الأكراد، وعلى غرار المسيحيين اللبنانيين في طلائع الحرب اللبنانية، أسقطوا بشجاعة المواجهة والقتال، التخلي الدولي عن الأقليات باللغة التي يفهمها العالم ووحوش المجازر، وتمكنوا من قلب المعادلات بالتضحيات التي لا حدود لها إلا إثبات الوجود بالقوة القاهرة.
وما دامت المعادلة المرعبة التي تجتاح الشرق الأوسط تقوم على انفجار مذهبي غير مسبوق كأنه الحرب الكونية بين السنة والشيعة، فإن لبنان وحده الآن يبقى جزيرة الحماية الحقيقية لسائر طوائفه ومذاهبه وأقلياته المسيحية والإسلامية، ولكن من دون وهم في أن يكون المسيحيون على بيّنة من أنهم يتحولون بسرعة مع الأقباط المصريين بين الكتل المسيحية الأخيرة الوازنة في الشرق الأوسط.
وهو أكبر وأخطر استحقاق وجودي ومصيري يواجههم، ولا ينفع معه التغني بأساطير تهدئة المخاوف.
(عن صحيفة النهار اللبنانية، 28 شباط/ فبراير 2015)