«إذا كان هذا فعلا هو الإسلام الذي يتحدثون باسمه فلا حاجة لنا به…!!» ربما لم يتحدث أحد بمثل هذه الطريقة الساخطة التي تحدث به هذا الرجل في عمان إلى إحدى الفضائيات العربية بعد الحرق المروّع للطيار الأردني معاذ
الكساسبة على يد «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، لكن الأكيد الآن، وخاصة بعد «حفلة
الذبح الجماعي» للعمال الأقباط المساكين في ليبيا، أن هناك المزيد ممن قد يتجرأ أكثر على كلام من هذا القبيل.
في أوقات الصدمة والذهول التي تخلفها أعمال إجرامية موغلة في التوحش قد تنطلق الألسن بأكثر مما يفكر فيه المرء في الواقع، غير أن ذلك لا يمكن أن يحجب عنا حقيقة أن هناك حيرة فعلية بين المسلمين اليوم تتصل بما إذا كان لديهم نفس الفهم والتصور لهذا الدين الحنيف الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. المشكل أن لا أحد، ذا مكانة اعتبارية محترمة، يتقدم محاولا المساعدة في انتشال المسلمين من هذه الحيرة. الأسوأ ، أن الأعلى صوتا الآن هم في الغالب ساسة سيئون أو علماء سلطة أو صحافيون مأمورون مما يفقد هذا النوع من الخطاب ركيزته الأهم على الإطلاق: المصداقية.
ليس عدلا أن تراود عموم المسلمين شكوك تتعلق بحقيقة الرحمة والتآخي والإنسانية الرفيعة التي جاء بها الإسلام الحنيف لأن ذلك يعني أنهم استسلموا لمن يريد اختطاف دينهم وتكييفه على مقاس أهوائه السياسية. إنهم بهذا الشكل يسمحون لقلة قليلة لا تتجاوز بضعة آلاف بمصادرة دين مليار ونصف من البشر. المسألة في عمقها الأبرز سياسية تتعلق بتفشي الإحباط وانسداد الآفاق بعد كل الآمال العريضة التي حملتها رياح التغيير على بلادنا العربية مطلع 2011 في تونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن والبحرين.
لنتذكر جيدا ما كان يقال في بداية نسائم «
الربيع العربي». كان يقال عندنا، وفي الأوساط الغربية كذلك، إن نجاح الشعوب في افتكاك زمام الأمور والخروج سلميا بهذه الآلاف للمطالبة بدولة القانون والحريات ومحاربة الفساد تعني أن دعاة العنف واللجوء إلى السلاح والتفجيرات وسيلة للتغيير قد منيوا بهزيمة نكراء لأن الشعوب قررت بصدور أبنائها العارية وسلميتهم الباهرة أن تفتك حقوقها وأن ترسم ملامح مستقبلها بطريقة مغايرة تماما.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ تكالب الكثيرون، في الداخل والخارج، لإفشال هذه الهبة الشعبية لاستعادة الحرية والكرامة وإجهاض أي توجه للانعتاق عبر الإمعان في قمعها أو تشويهها أو الانقلاب عليها بعد التظاهر الكاذب بالتسليم بها. مثل هذا المناخ هو المثالي بالتأكيد لعودة دعاة التطرف والعنف ليطلوا برؤوسهم من جديد، خاصة عندما يعمد البعض إلى استدعاء الطائفية البغيضة لمحاربة إرادة التغيير الجماهيرية العارمة كما حصل في العراق وسوريا. أطل هؤلاء لأن تعفن الأوضاع في كل المنطقة بعد انتكاس موجة التغيير والإصرار على إجهاضها لا يمكن أن يولـّــد في النهاية إلا عفنا من نفس الطينة بل وأسوأ. لقد بعثت الهبات الشعبية في أكثر من دولة عربية آمالا جارفة في تعافي هذه الأمة بعد عملية جراحية سريعة حاول فيها الناس التخلص من أمراض مزمنة فإذا بمن يعبث بلؤم بجرح مفتوح قبل أن يندمل.
بوضوح أكثر: لو سقط بشار الأسد منذ البداية عوض نجدته من التنظيمات الطائفية المجاورة، ولو تجاوب نوري المالكي مع مطالب المحتجين المشروعة، ولو صبر الجيش المصري قليلا على مرسي حتى تسقطه صناديق الاقتراع وليس شيء آخر، ولو كف المتآمرون أذاهم على إرادة التغيير الجماهيرية العارمة في هذه الدول وغيرها.. ربما ما كنا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن…أو على الأقل لما كنا وصلنا إلى مثل هذه الدرجة من السوء. هل هذا يفسر كل شيء؟ بالتأكيد لا… فهذه الممارسات وجدت قبل هذه الأحداث وستستمر بعدها ولها أكثر من سبب مغذٍ أو مشجع. ما يقال هنا هو جزء بسيط من محاولة الفهم والتفسير لظاهرة بالغة التعقيد ومتعددة الأبعاد لكنه ليس، ولا يجب أن يتحول بحال من الأحوال، إلى أي نوع من التبرير أو البحث عن الأعذار أو الشرعيات المصطنعة لا سيما باسم الإسلام.
الأخطر من كل ما سبق على الإطلاق أن هناك من انجرف من بين الناس العاديين إلى التبرير فعلا وبكل الحجج المعقول منها أحيانا والمتهافت في أغلب الأحيان. إلقوا نظرة سريعة على شبكات التواصل الاجتماعي وستكتشفون العجب العجاب. إذا كان هؤلاء عينة معبرة بصدق عن قطاع واسع من المزاج الشعبي العام، فهنا الطامة الكبرى وليس ما شاهناه على الشاشات إلى حد الآن.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)