يكتب
الفلسطيني لأنه يؤرخ للذاكرة وللتاريخ، ويخشى ضياع ما تبقى من
الوطن، ويكتبُ لأن الكثير من أوجاعه لا تُلملمها غيرُ الكتابة، وقد تفلحُ في نكئها في أحايين كثيرة. ويكتبُ أيضا لأنه مسكُون بأرض بعيدة المنال، لا تتراءى له إلا قصيدة ممشوقة القوافي، أو قصة فصلها الأول وجع، وفصلها الأخير شوق للعودة إلى الديار.
هكذا استعاد عدد من الروائيين الفلسطينين ملامح الكتابة الأدبية عن فلسطين ومن أجلها، في سرديات تروي مساراتهم الفكرية وتجاربهم الأدبية التي ولدت في الشتات وعاشت
المنفى واقعا بديلا عن الوطن، وذلك خلال ندوة نُظمت على هامش فعاليات الدورة الـ21 للمعرض الدولي للكتاب بالمغرب، التي تحتفي بدولة فلسطين "ضيف شرف".
فالأدب الفلسطيني أزهر في منفاه، حين كانت "فلسطين الأرض" تعيشُ خريفها، وتقاتل بجلد رغم كل الخيبات المحيطة بها، فانبرى شعراء وروائيو المنفى إلى بناء صورة للذات الفلسطينية القادرة على الصمود وحفظ هوية الوطن في المهاجر، وحفرها تفاصيلا غائرة في الذاكرة. فصارت المنافي المتناثرة على امتداد عواصم العالم، خشبات شاهقة لا يكل الأديب الفلسطيني من امتشاقها، ناقلا مُعاناة شعبه المُهَجّر قسرا، والمُندفع طوعا وبشراسة لمواجهة مُحتله.
الأديب الفلسطيني ربعي المدهون، المُتنقل منذ سنوات صباه الأولى بين منافي تتموسمُ مواقعها حسب المزاج السياسي المُتحكم في القضية الفلسطينية والصراع حولها على حد قوله، يُوضح في شهادته التي قدمها على هامش الندوة، أن "حالة اللجوء" التي عاشها طائفا في المُخيمات وعواصم عربية وغربية عدة، جعلته "يفقد الإحساس بالمكان"، ودفعتهُ في ذات الآن "للدفاع عن انتمائه لفلسطين الغائبة عبر الكتابة عنها وحولها".
وألف المدهون مجموعته القصصية "أبله خان يونس"، وروايته التي رشحت للقائمة القصيرة للجائزة العربية للرواية العربية "السيدة تل أبيب"، وأعمالا نقدية وأدبية أخرى، جميعها كُتبت في منافيه المتعددة، من القاهرة إلى بغداد فدمشق، مرورا بنيقوسيا وموسكو قبل أن ينتهي لاجئا في لندن. فعبرت نصوصه عن حالة العجز المريرة التي تعتمل الذات الفلسطينية المنفية، تتقاذفها الحواجز والمطارات وقاعات الانتظار، لكنها تصارع بشراسة لحفظ الوجود والتأكيد على القدرة في الاستمرار.
من جانبه اعتبر الروائي الفلسطيني سلمان الناطور أن "تجربة النفي والترحيل عن الأرض ومُفارقتها عاشها كل الفلسطينيين، حتى أولئك الذين بقوا في ديارهم كعرب الـ48، لكنهم لمسوا التهجير عيانا من خلال أقاربهم وعائلاتهم، بل عبر الوطن الذي تغيرت معالمه وفقد سجيته الأولى".
الناطور قال إنه ذاق مرارة المنافي واللجوء عبر هؤلاء الذين شاهدهم يغادرون أراضيهم قسرا من بيسان وحيفا ويافا، فيما ظل هو في أرضه يرقب مواعيد وقوافل رحيلهم، ليأخذ على نفسه عهدا منذ الصبا بأن تكون كل كتاباته الروائية عن المهجرين من أبناء وطنه، يسرد قصصهم المنسية، ويروي حكايات قراهم المُحتلة التي غير المُغتصب قسماتها، وذاك ما عكف عليه طوال 40 سنة من الإنتاج الأدبي والتأليف المسرحي.
واعتبر عدد من الروائيين الفلسطينيين في مداخلاتهم خلال الندوة، أن أعمالهم الأدبية تعكسُ رؤية مغروسة في دواخلهم، عن واقع بلدهم المصادرة حقوق أبنائه والمخذول من جواره، والمُفارق لأجيال كاملة من أبنائه المُغيبين في أراضي اللجوء. فالمنفى في الذاكرة الفلسطينية تتنوع فصوله، ورحلاته، لكن الذوات الفلسطينية المتناثرة في البقاع المختلفة استطاعت من خلال الكتابة الأدبية أن ترسم ملامح مشروع ثقافي فلسطيني يتشبت بالأرض ولا يتنازل عن العودة عليها.
فالأدب الفسلطيني- بحسب هؤلاء- صنع من الوطن رمزا يتجاوز إحالاته المجازية، المُختزلة للمعاني والممكثفة للدلالات، لتصير الكتابة خيار المبدع الفلسطيني الذي يقاومُ بؤس منفاه، فحظه من مدنه وقراه ومشاتل صباه، ذاكرة موجوعة تستحثه لاستحضار ما غاب عنه في متن نصوصه رمزا مكتنزا بأسطورية بلاغية، تجسر المسافات والحقب المديدة التي باعدت بينه وبين فلسطين.
وتنظمُ على هامش المعرض الدولي للكتاب في
المغرب الذي انطلق في الـ12 من الشهر الجاري وتتواصل إلى غاية 23 منه، عدد من الندوات الفكرية والأدبية التي تناقش واقع الثقافة الفلسطينية والتحديات التي تُواجهها في ظل الحصار القاهر ومشاريع التهويد المُحدقة بأجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، وذلك ضمن برنامج خاص يحتفي بدولة فلسطين ضيف شرف في الدورة الحالية.