ليس في النصوص العربية وصف يصور حالة العجز التي بلغتها الأمة اليوم أمام واحدة من أكبر المآسي البشرية في التاريخ الحديث غير البكاء على أطلال
سوريا التي خلفتها وحشية
نظام الممانعة هناك. السوريون اليوم هم أكبر مجموعة لاجئة في العالم حيث يتراوح عدد اللاجئين والمهجرين بين ثمانية وثلاثة عشر مليون لاجئ ومشرد في الداخل والخارج. هم كذلك في صمت دولي مطبق وتواطؤ عربي لا يخفى.
حجم الجريمة
الكارثة الإنسانية الكبيرة جريمة حقيقية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمم الحديث فحتى مذابح المسلمين في البوسنة دفعت القوى الدولية ومصالحها الاستراتيجية إلى التحرك من أجل إيقاف المذبحة الصربية. سمعنا كثيرا ورأينا أكثر من هول مشاهد الموت والخراب والدمار مما عجز كبار السفاحين عبر تاريخ المجازر البشرية على الإتيان بمثله، فقد أكل السوريون العشب والقطط والكلاب، ومات الأطفال جوعا على أرصفة الشوارع ودُكت مدارس بكاملها بالبراميل الطائفية من أجل عيون ولاية الفقيه.
اليوم يتجمد السوريون في العراء في تركيا والأردن ولبنان والعراق، وما من مغيث إلا من بعض المبادرات الإنسانية التي لا تكاد تغطي عجزا كبيرا بسبب ضخامة أمواج المهجرين. مشاهد اللاجئين السوريين في المخيمات والملاجئ يواجهون الجوع والبرد والموت عزلا من كل قدرة على المقاومة والفعل هي أعمق عناوين العجز العربي أمام أنظمة الاستبداد التي لم تَكفها سنوات من الدمار وتخريب المجتمعات، بل ها هي تقابل بالقتل والتشريد والتصفية كل مُطالب بالحرية والعدالة.
العجز العربي الكبير لا يقتصر على المؤسسات الرسمية من جامعة عربية وحكومات ودول ومؤسسات هرمت وشاخت، وصارت جزءا من الجريمة ضد الأمة وشعوبها، بل يتجاوزها إلى عجز الشعوب ذاتها على تفعيل معابر وقنوات قادرة على مد يد العون والمساندة لإخوة لهم في الدين والوطن. النظام الرسمي العربي شريك فاعل في الجرائم التي تُقترف في حق المدنيين العزل في سوريا، وكذلك يفعل المجتمع الدولي ومؤسساته الناعقة بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية التي لا تشمل الشعب السوري.
أبعاد الجريمة
لم يكن أحد يتوقع أن يبلغ النظام والمجتمع الدولي في التعامل مع مطلب الشعب السوري بالحرية والعدالة والكرامة هذا الحد من الوحشية، ولا نكاد نشك لحظة في أن كل الأنظمة الاستبدادية العربية وجيوشها المغوارة كانت لتفعل الشيء نفسه لو توفرت لها الظروف الإقليمية ذاتها التي توفرت لجيوش النظام في سوريا، بنغازي مثلا أنقذت في اللحظات الأخيرة قبل أن تدكها كتائب القذافي دكا لولا التدخل الأجنبي الذي كان على دراية كبيرة بدموية الرجل ونظامه.
قد يعتقد العرب والمسلمون اليوم أنهم بعيدون عن المنوال السوري وأن المصيبة ليست مصيبتهم، لكن ما يغفلونه هو أن الجميع كان يزعم قبل ذلك أن مأساة العراق تخص العراقيين وحدهم، وها هي اليوم في كل مكان، بل نعتقد أنها ستزحف إلى كامل المنطقة العربية، وواهم من يعتقد أنه في مأمن منها ما لم يدرك القائمون على أمر مزارع الاستبداد العربية أن العاصفة ستذهب بهم هم أولا. الخراب بيننا يتسلل عبر اليمن وعبر البحرين، ومن خلال العراق وجنوب الصحراء الأفريقية متلحفا بالإرهاب تارة وبالمقاومة والنضال والجهاد تارة أخرى.
الصراع اليوم في سوريا هو صراع ضد الاستبداد وضد جرائم الطغاة، هو صراع ذو بعد إنساني يخرج كليا عن دائرة الانتماء الإيديولوجي، وليس الناعقون من الطائفيين والمتدثرون بغطاء العروبة والقومية إلا أبرز المشاركين في هذه الجريمة بدفاعهم عن نظام المذابح في الشام. لقد عرت مأساة الشعب السوري أكثر من فصيل سياسي، لكن ذلك الفصيل الذي كان يتغنى بالعروبة والتقدمية والثورة والنضال أصبح اليوم واقفا في صف الطغاة، وهو أكثر إجراما في حق أطفال سوريا من المجرم نفسه.
الطائفيون المتلحفون برداء القومية العربية من الخدم المطيع لأنظمة العسكر الدموية من ليبيا إلى الجزائر إلى سوريا فالعراق فاليمن فالسودان يدافعون اليوم عن سيد المقاومة ونظام الممانعة، أما الأطفال المتجمدون في الملاجئ ممن أخطأتهم براميل الأسد فهم حسب قراءاتهم الكسيحة جزء من المؤامرة ضد الجيش العربي السوري.
ليس أجرم من الاستبداد العربي غير النخب العربية والإيديولوجية البائسة التي تشرّع اليوم لقتل الأبرياء من أجل الحفاظ على ولي نعمتها وعلى فتات الخبز الذي يجود به عليهم.
قد نفهم أن تدافع إيران عن مجالها الحيوي، وقد نفهم التدخل الاستعماري في المنطقة؛ لأنه ليس جديدا عليها، لكن كيف يمكن أن نفهم مساندة نخب عربية لمثل هذه الجرائم.
المسؤولية الدولية
السؤال الأكبر اليوم هو ما الذي يمنع المجتمع الدولي الذي تدخل في صربيا ودارفور وليبيا من التدخل في سوريا من أجل منع طائرات
البراميل من ارتكاب جرائمها، ومن أجل السماح بعودة المهجرين إلى ديارهم؟
لماذا لا تسمح مؤسسات المجتمع الدولي في مناطق معينة أو ممرات إنسانية تساعد على دخول المعونات إلى الداخل السوري أو على الأقل لإيصالها إلى النازحين واللاجئين في دول الجوار؟
أليس الشعب السوري وأطفال سوريا رهائن اليوم بيد النظام والمجتمع الدولي؟ ألم تخلق المخابرات العربية وأنظمة العصابات بمساندة دولية أغلب المنظمات الإرهابية التي تمزق المنطقة العربية منذ عقود؟ أليست داعش في الحقيقة نسخة متطورة لتنظيم القاعدة الذي تبخر فجأة بعد أن أنجز مهمة احتلال العراق وتدميره واحتلال أفغانستان وتدميرها وتخريب كل تجارب المعارضة السلمية والديمقراطية في المنطقة العربية؟
أليست نسخ ما بعد القاعدة في الحقيقة تطورا حقيقيا لمنتجات الاستبداد العربي وسلوكياته؟ ماذا حققت الجماعات المتطرفة للأمة غير الخراب والدمار والتدخل الأجنبي وتدمير صورة العرب والمسلمين في الداخل والخارج؟ ألا تمثل صور الجماعات المقاتلة الوجه الآخر لبؤس الواقع العربي؟ ألم يكن الربيع العربي بحراكه السلمي هو الوجه الحقيقي لمطالب الجماهير العربية بالحرية والعدالة والكرامة؟ ألم يقمع المتظاهرون السلميون ويقنصوا في الشوارع والأزقة بل ويحرقوا أحياء في شوارع القاهرة ودرعا والقصرين وأجدابيا وصنعاء من أجل أن تنتصر النسخة الدموية لتنظيمات العنف المسلح؟
لا أحد يريد تدخلا دوليا إنسانيا في سوريا ولو قتل النظام الطائفي كل الشعب السور، فالملف السوري ليس ملفا عاديا، ويبدو أن الرهان عليه يتجاوز وجود الشعب السوري ووجود سوريا ذاتها، فالفيتو الروسي والقبضة الإيرانية والحسابات الأمريكية الصهيونية والدولية أقوى من كل الأعراف والمواثيق التي ذابت مساحيقها وذهبت بها نسائم الربيع العربي.
مبدأ التدخل الإنساني
مبدأ التدخل الإنساني الذي تم استثماره بشكل كبير خلال القرن الماضي لم يعد قابلا للتطبيق في الحالة السورية التي تستوجب فعلا تحركا دوليا من أجل إيقاف الإبادة الجماعية التي يمارسها النظام ضد شعبه، فنحن اليوم أمام جرائم موصوفة ضد الإنسانية ترتقي إلى مطاف الإبادة الجماعية.
التدخل الدولي في المنطقة العربية ليس جديدا، فقد حدث مثلا في حالة احتلال العراق وتدميره من قبل الإمبراطورية الأمريكية بذريعة الحرب الاستباقية ومظلة نشر الديمقراطية وتدمير أسلحة الدمار الشامل التي لم توجد قط، لكنه حدث أيضا بقرار من مجلس الأمن عدد 1973 لمنع طائرات القذافي من تدمير بنغازي، وهو تدخل أنقذ آلاف الأرواح الليبية عندما منع الطيران الليبي من التحليق جوا.
لم ينص ميثاق الأمم المتحدة لفظا على مبدأ "التدخل الإنساني" من خلال الفصل السابع احتراما لسيادة الدول، وبسبب إمكانية استثمار هذا المبدأ في التدخل العسكري تحت غطاء إنساني وتضارب المبدأ مع "مسألة السيادة". لكن من ناحية أخرى نصّت "اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول" التي كُلفت بوضع أسس التدخل الدولي الإنساني في تقريرها لسنة 2001 على إقرار مبدأ الحماية أو "مسؤولية الحماية".
ويتلخص المبدأ السابق في أن الدول ملزَمة قانونيا بحماية سكانها احتراما لمبدأ السيادة ذاته، لكن في حال تعرض السكان للخطر نتيجة حرب داخلية أو قمع وإخفاق الدولة في إيقافه فإن "مبدأ عدم التدخل" يسقط وتحل محله "المسؤولية الدولية للحماية"، وهي الشكل المتطور لمبدأ التدخل الإنساني.
الشعب السوري بمنطق القانون الدولي، وعملا بمبادئ الأمم المتحدة "شعب في خطر" لأن مستويات "مسؤولية الحماية" التي نصت عليها اللجنة الدولية، سواء على مستوى "مسؤولية الوقاية" بمستوياتها الأربعة (التدابير السياسية والاقتصادية والقانونية والعسكرية ) أو "مسؤولية الرد" (الرد الاقتصادي والمالي والعسكري والأمني والسياسي والدبلوماسي ) أو مسؤولية "إعادة البناء" كلها متوفرة في الحالة السورية.
في الإعلام الغربي والأمريكي تحديدا لا نسمع عن المعاناة السورية كثيرا، ولا يبلغنا من سوريا إلا داعش والجماعات الإرهابية هنا وهناك، وتهديدها لدول الجوار الإقليمي، وحتى للسلم العالمي، لكن معاناة السوريين في المنافي القسرية وموت الرضع بردا أمور لا ترصدها نشرات الأخبار الأمريكية وإعلام العار العربي.
ما لم يقله القانون الدولي عن التدخل الإنساني أو ما سماه "بمسؤولية الحماية" التي تتضمن المسؤوليتين الدولية والعربية هو ماذا نفعل إذا لم تُفعّل الأمم المتحدة القرارات الصادرة عنها، وعندما تضيع حقوق الإنسان وكرامته في أروقة المؤسسات الدولية ومصالح شركات الأسلحة والتنقيب عن ثروات الشعوب؟ من ينقذ أطفال سوريا وقد منعت أغلب منظمات الإغاثة العربية والإسلامية من المساعدة وربطت أنظمة الاستبداد بين المساعدات ودعم الإرهاب ليبقى الشعب السوري محاصرا بين البراميل الطائفية وفرق الموت الاستخباراتية العابرة للأوطان ؟
المؤكد الأكيد أن أنقاض البراميل الطائفية وجرائم الاستبداد العربي وخيانة النخب ستكون الأرض التي عليها سيولد الوعي الجديد مقدمة لمخاض عسير تعيشه الأمة اليوم، وفيه ستنتصر إرادة الحياة على فرق الموت؛ لأن إرادة الحياة من إرادة الله ولأن إرادة الله لا يمكن أن تخيب.
رحم الله أطفال سوريا.