1-
(سيدي بوزيد –
تونس – 18 ديسمبر 2010)
اندلعت مواجهات عنيفة بين المئات من سكان منطقة سيدي بوزيد وولاية القصرين وقوات الأمن التونسية بعد يوم واحد من قيام الشاب محمد البوعزيزي بإشعال النار في نفسه بسبب مصادرة عربة الفاكهة التي كان يعمل عليها.
خرجت المظاهرات تضامنا مع البوعزيزي الذي كان راقدا في المستشفى وقتها، وكذلك احتجاجا على ارتفاع نسبة البطالة والتهميش والإقصاء في الولاية، ولم تكن الهتافات واللافتات توجه مطالبها لنظام "بن علي" نفسه، دون أدنى إشارة إلى المطالبة بإسقاطه.
أعملت الشرطة القوة المفرطة في التعامل مع المظاهرات، اعتقلت المئات خلال الأيام الأولى للاحتجاجات وسقط القتلى تباعًا، وشيئا فشيئا زادت رقعة المظاهرات لتشمل غالبية المدن التونسية، وارتفع سقف مطالبها إلى إسقاط النظام ومحاسبته، حاول زين العابدين بن علي تدارك الأمر فأجرى إصلاحات في الحكومة وأعاد فتح بعض مواقع الإنترنت المحجوبة وخفّض أسعار بعض السلع لكن الأوان كان قد فات، ودفعت الدماء الغزيرة التي أريقت في المظاهرات الثوار إلى التمسك بمطلب رحيل الرئيس، وهو ما حدث في نهاية المطاف.
السؤال: ماذا لو تقمع السلطة التونسية المظاهرات؟ ماذا لو سمحت لها بالتعبير عن الرأي الغاضب دون مواجهته بالعنف ودون سقوط قتلى؟ هل كان يمكن أن يقتصر الضحايا حينها على عدة وزارات وبضعة تنازلات دون سقوط رأس النظام؟
2-
(وسط القاهرة –
مصر –
25 يناير 2011)
استجابة لدعوة أطلقتها صفحة "كلنا خالد سعيد"، نزل الآلاف في شوارع القاهرة قاصدين ميدان التحرير للتنديد بممارسات الشرطة تزامنًا مع احتفالها بعيدها، وفي القلب كانت بعض الأصوات تطالب بتحويله إلى يوم غضب ينتهي بإسقاط حسني مبارك على غرار نظيره بن علي الذي هرب إلى السعودية قبل أيام.
لم تعترض الشرطة طريق المتظاهرين، وبدا أن نظام مبارك تعلم من درس تونس أن المظاهرات وحدها لا تسقط أنظمة، وأن سقوط القتلى وإراقة الدماء هو الكفيل بتحويل المظاهرات المعارضة إلى ثورات.
بعد عدة ساعات الأمر اختلف مع زيادة أعداد المتظاهرين في الشوارع، فتوترت الشرطة واستخدمت العنف وقتلت ثلاثة متظاهرين في السويس، كما فضت اعتصام ميدان التحرير بالقوة في ساعة متأخرة من الليل، وفي اليومين التاليين تصدت بشراسة لكل محاولات الوصول إلى الميدان حتى كانت جمعة الغضب.
امتلأت الشوارع بالبشر الذين يجمعهم هدف واحد، الوصول إلى ميدان التحرير، وفي المقابل كان لدى الشرطة هدف واحد، منع المتظاهرين من الوصول لميدان التحرير، وبأي ثمن، ورغم أنها قتلت المئات في سبيل ذلك لكنها انهارت في النهاية وانسحبت من الشوارع ليسيطر الثوار عليها بشكل كامل.
الآن الثوار في موقف قوة، وفي الأيام التالية رفضوا كل محاولات مبارك للخروج الآمن وصمموا على مطلبهم حتى تحقق لهم ما أرادوا، وخلع مبارك يوم 11 فبراير 2011.
السؤال: ماذا لو سمحت الشرطة للمتظاهرين بالبقاء في التحرير لأيام ورفع المطالب التي يريدونها؟ ماذا لو لم تقتل الشرطة المئات يوم جمعة الغضب؟ هل كان من الممكن حينها أن يكتفي المتظاهرون بتغيير الحكومة وتعهد مبارك بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة وعدم تقديم ابنه كمرشح رئاسي؟
3-
(مصر الجديدة – مصر – 5 ديسمبر 2012)
عدة عشرات من المعارضين لحكم محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين يعتصمون داخل بعض الخيام أمام أسوار قصر الاتحادية الرئاسي احتجاجا على الإعلان الدستوري، احتشد المئات من أعضاء جماعة الإخوان وساروا في طوابير شبه عسكرية لفض الاعتصام بالقوة حماية لرئيسهم، وبالفعل خلعوا الخيام واعتدوا على النشطاء المعتصمين وزعموا أنهم فعلوا ذلك لأن المعتصمين كانوا يرتكبون أفعالا لا أخلاقية داخل الخيام.
في المساء تطورت الأمور بسرعة، واحتشد أنصار كل فريق ودارت اشتباكات دامية سقط فيها نحو 11 قتيلا فضلا عن عشرات المصابين، لم تفلح محاولات الإخوان للتدليل على أن العدد الأكبر من الضحايا كان في صفوفهم في ظل فيديوهات كثيرة تكشف من الذي بدأ بالاعتداء ومن المسؤول عن الدماء.
كان الجزء الأكبر من المعارضين قبل أحداث الاتحادية يطلبون من مرسي التراجع عن الإعلان الدستوري واتخاذ خطوات إصلاحية لتحقيق أهداف الثورة باعتباره الرئيس الشرعي، بعد الأحداث أصبح رحيل مرسي هو مطلب الغالبية الساحقة من الذين أيدوه على حساب أحمد شفيق في انتخابات الرئاسة باعتبار أن ما بينهم وبينه خلاف سياسي، وما بينهم وبين شفيق دم، الآن هو مسؤول عن أحداث الاتحادية كمسؤولية شفيق عن موقعة الجمل، الآن بات المطلب هو الرحيل وليس الإصلاح.
في الشهور التالية تشكلت حركة معارضة قوية ضد مرسي زادت بتوالي سقوط القتلى في أحداث واشتباكات لاحقة، ولقيت دعما كبيرا من أجهزة الدولة والاستخبارات التي ترغب في الإجهاز على الثورة، حتى انتهى الأمر بسقوط نظامه في 3 يوليو، وحدوث قطيعة أبدية بين كل الأطراف التي شاركت في الثورة وبعضها.
ماذا لو تعلم مرسي من تجربتي بن علي ومبارك؟ ماذا لو لم يعلن مكتب الإرشاد النفير ويعطي أوامره بفض اعتصام الاتحادية؟ ماذا لو لم تسل الدماء مساء 5 ديسمبر على أبواب القصر الجمهوري؟ ماذا لو استجاب مرسي لمعارضيه وتراجع عن الإعلان الدستوري؟
4-
(ميدان طلعت حرب – مصر – 24 يناير 2015)
وقفة بالورود نظمها أعضاء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي إحياء لذكرى شهداء الثورة؛ هجمت عليها فجأة قوات الأمن بقنابل الغاز وأجهزة الخرطوش، سقطت
شيماء الصباغ القيادية في الحزب غارقة في دمائها لتلتحق بقافلة الشهداء.
على مدار شهور طويلة نجح الإعلام الموالي للسلطة في إقناع كثير من المصريين أن دماء الإخوان مهدورة وأن الأمن مضطر لقتلهم حتى يحمي البلد من السقوط، وعليه لم يهتز ضمير الملايين باستشهاد سندس رضا، ابنة السبعة عشر عامًا في الإسكندرية، وقالوا ما قاله الإخوان على إحدى معارضاتهم قبل 3 سنوات: "إيه اللي وداها هناك"؟
السكوت على استشهاد سندس بهذه الطريقة كانت تشي بأن المروءة غابت عن كثيرين، وأن ما كنا نسمعه دوما عن شهامة المصري ومروءته واعتبار الاعتداء على النساء بالنسبة له خط أحمر ترهات من نوعية "الطفل المصري أذكى طفل في العالم"، الطبيعي أن يطمئن هذا الحادث السلطة على نجاح خططها، فتكتفي بالدماء التي تشربها من عروق الإخوان وحلفائهم كل ليلة دون حساب، دون أن تتورط في جريمة كقتل شيماء، لأنه لن يمكن الحديث عن ولائها للإخوان.
لولا استشهاد شيماء ما جاءت أحداث 25 يناير 2015 بهذه السخونة، وما دخلت السلطة في خصومة مع بعض حلفائها التي جاءت علي أكتافهم بعد 30 يونيو، وما انضم المئات من شباب الثورة إلى حراك الإخوان.
5-
يقولون إن "التكرار يعلم الشطار" لذلك لا يتعلم حكامنا العرب.
أثبتت تجارب السنوات الماضية أن الدماء هي وقود الثورات ونعش الحكام، ورغم ذلك يواصل نظام السيسي بكل حماس أخذ حصته من دماء المصريين، ربما يطول بقاؤه أكثر من غيره بفضل الدعم الإعلامي والسياسي والخليجي والشعبي، لكن الأكيد أن الأمور لن تمضي على هذا النحو، وأن الدماء التي أراقها قبل الحكم وبعده ومازال يتورط فيها، ستجعله يلحق بسابقيه أسرع مما يتصور هو وأبطأ مما نتصور نحن.
كما أشعلت دماء خالد سعيد والسيد بلال وكريم بنونة الثورة الأولى، وكما أشعلت دماء الحسيني وجيكا وكريستي الثورة الثانية، ستشعل دماء سندس وشيماء وأسماء الثورة الثالثة، فانتظروا إنا منتظرون.