لقد أصبح مصطلح
الإرهاب صنما عالميا جديدا مقدسا، لا يجوز المساس به أو مناقشة شكله ومضمونه، بل أصبحنا أمام روزنامة من التعريفات الغربية الصرفة له ولأدواته، ولآليات مواجهته، وضرورة الاصطفاف في المعسكر الأمريكي الأوروبي ضده.
ليس ثمة إمكانية على الإطلاق أمام هذا الزخم الهائل لطلب التهدئة، والمناقشة الموضوعية لظروف نشأته، وليس ثمة إمكانية لقياس أفعال أخرى قامت وتقوم بها الدول الكبرى في الماضي والحاضر، وستستمر ما لم يتعقل العالم، ويسمح لنفسه بالرجوع خطوات كثيرة للوراء.
يُراد منا أن نقبل بواقع شمولي ديكتاتوري، مقابل أمن هش ينهب أرواحنا واقتصادنا وإيماننا، يُراد لنا أن نُوضع في فخ اختيار غير عادل بين قيم
الحرية وبين الإرهاب والتطرف، يُراد منا أن ننزع عن أنفسنا حق الاختيار بين وسائل عديدة من شأنها إصلاح أدوات الحكم وتربية شعوبنا على فكر الاختيار بين أفضلها، يُراد لنا أن نرتهن لغير ثقافتنا وقيمنا، وأن نغلق على ضمائرنا وعقولنا، غير مجيزين لأنفسنا حق التفكير.
يُسلط علينا سيف
الإعلام العربي والغربي على حد سواء، ينخر ليل نهار في عقول الأجيال، ينحت فيها كل قيم الاستهلاك والضياع الروحي، ثمة منظومة واحدة فقط مطلوب منا الاعتراف بقيمها، وبإنتاجها المعرفي، ونظرتها الفلسفية، ولطبيعة العلاقات بين الشعوب، ومحرم علينا في وثنية جديدة أن ننحاز إلى ما يخالفها، أو أن نمعن فيها النظر بقليل من النقد.
كيف يمكن لظاهرة يتهمها العالم بالإرهاب والتطرف، وتقويض الحريات العامة والخاصة أن تدافع عن أحدث الأفكار تداولا في عالم الفكر والسياسية؟ وكيف يمكن لمجموعات متطرفة متشددة أن تقف بمحاولات الانقلاب والهيمنة العسكرية، وإرجاع عجلة الثورات للخلف، إلى زمن العبودية وتأليه الزعماء وأبنائهم وبناتهم وزوجاتهم؟
في ليبيا وقف مجلس شورى ثوار بنغازي ضد محاولة الانقلاب العسكري التي تزعمها اللواء المتقاعد تحت ما يسمى بعملية الكرامة، لا شك أن جزءا ليس بالقليل منهم كفر بالديمقراطية وأدواتها السياسية. وسبب كفرهم ذلك راجع في بعضه لأسباب عقائدية، لكنهم على الضفة الأخرى من الفكرة يملكون حجة قوية لا يستطيع أكثر الفلاسفة وجاهة في العرض وبلاغة في المقال أن يدافع عن ديمقراطية لم تطقها القوى الغربية أن تتنزل على أرض واقعنا، فأيدت ودعمت وباركت الانقلاب العسكري بمصر، وتباركه الآن في ليبيا، وتترك يد الساسانيين تعبث باليمن، وتزهق أرواح السنة في العراق.
في ليبيا، لم يبدأ المتطرفون حربا على العملية السياسية، أو دعوا إلى إسقاط المؤتمر الوطني العام، رغم الماكينة الإعلامية التي عملت على شيطنتهم، أمام الداخل الليبي، والخارج الدولي.
لم تقدم الحكومات الليبية المتعاقبة دليلا واحد بموجب تحقيقات جنائية قانونية، على ارتكابهم كل هذا الكم الهائل من الجرائم التي سقط فيها عسكريون ومدنيون على حد سواء.
حتى أن بيان مجلس الأمن الدولي بخصوص وضع تنظيم أنصار الشريعة في بنغازي على لائحة الإرهاب، والقائمة السوداء، لم يشر إلى ما إلى جرائم ارتكبوها داخل ليبيا، لأن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وبريطانيا، تعلم حكوماتها أنه لم يجر تحقيق واحد جاد يوجه الاتهام إلى هذه الجماعة، وقام صلب قرار مجلس الأمن وعموده الأساسي على توجيه اتهامات متعلقة بارتباطات خارجية، كتدريب مقاتلين في ليبيا وإرسالهم للعراق وسورية ومالي.
في ليبيا من بدأ الانقلاب هو خليفة حفتر، ومن أيده وسانده فكريا أقلام وأفواه لم تفاجئنا بدعمه وتأييده، حيث أننا رأيناها وهي تهرول لتجلس في حجر الجنرال السيسي، وتسب شعوبها، وتلعن الديمقراطية التي أتت بالإسلاميين ولم تأت بهم.
في تونس رغم اللغة الحداثية التي يتكلمها حزب النهضة التونسي، ورغم مشاركته في كل الانتخابات التونسية، وتنازله عن حقه كأغلبية لصالح التوافق مع قوى اليسار والدستوريين، إلا أن محاولة الزج به في أحضان الإرهاب مستمرة، ويصر عليها إعلاميون ومثقفون كانوا بالأمس القريب من المستمتعين بمنح نظام بن علي الراحل.
كيف يُطلب منهم أن يؤمنوا بديمقراطية تستحل دماءهم وأعراضهم في العراق واليمن وسوريا تحت كل مسمى طائفي وهمجي، إلا الإرهاب؟ كيف يستطيع العالم إقناعهم بأن ما قام به السيسي في مصر كان ثورة وليس انقلابا على خمسة استحقاقات انقلابية؟
لماذا لا تعترف الدول الخمس الكبار، بأن ما تقوم به عصائب أهل الحق في العراق، وحزب الله في سورية، والحوثيون باليمن، ومليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، هو عين وأم وأب الإرهاب والتطرف؟، وأن من حق أي جماعة مهما كان انتماؤها العقائدي أن تقاومها وتردعها، وتدافع عن حقها في الحياة.
لن يكتب المؤرخون الحداثيون أن جماعة ما قاومت الانقلابات والمليشيات الطائفية، هي جماعة قاومت بموجب ما نصت عليه المواثيق والعهود الدولية، لن يعترفوا أبدا بحقهم في الحياة السياسية أو حتى الحياة الطبيعية.
لكننا لن نخجل من إعلان أن "الإرهاب" -كما يزعمون- قد يكون في ظرف ما، ولحظة تاريخية ما، مدافعا عن الحرية!