كتاب عربي 21

يوسف شاهين في ذكرى ميلاده التاسعة والثمانين: مسار سينمائي مثير للجدل!

1300x600
في منزل تستعمل داخله أربع لغات، ولد يوسف شاهين في الخامس والعشرين من يناير 1926 بمدينة الاسكندرية التي كانت تضم، وقتها، خليطا من الأجناس والثقافات وهو ما سيؤثر لاحقا في المسيرة السينمائية لهذا المخرج الذي آثر السفر باكرا إلى  الولايات المتحدة الأمريكية لتعلم تقنيات الفن السابع.

وعلى مدار مسيرة امتدت ما يفوق نصف قرن، قدم يوسف شاهين أكثر من أربعين شريطا روائيا مطولا توزعت على كل الأنماط السينمائية تقريبا، حيث قدم الكوميديا في (بابا أمين - 1950، نساء بلا رجال - 1953،  انت حبيبي - 1957) والدراما الاجتماعية في (ابن النيل - 1951) والمغامرات في (صراع في الوادي - 1954) والكوميديا الغنائية في (ودعت حبك - 1956،  بياع الخواتم - 1965) والميلودراما في (صراع في الميناء - 1956، نداء العشاق - 1960،  رجل في حياتي - 1961) والفيلم النضالي في (جميلة بوحريد - 1958) والواقعية في (باب الحديد - 1958) والملحمة التاريخية في (الناصر صلاح الدين - 1963، وداعا بونابرت - 1985، المهاجر - 1994، المصير - 1997) والسينما الحديثة في (فجر يوم جديد - 1965، الاختيار - 1970) والسيرة الذاتية في (اسكندرية ليه - 1979،  حدوثة مصرية - 1982،  اسكندرية كمان وكمان - 1990) والسياسي في (العصفور - 1974،  عودة الابن الضال - 1976) وغيرها. 

لكن أهم ما يجعل من شاهين ممثلا لتيار سينمائي قائم الذات في العالم العربي تفوقه في ثلاثة أنماط سينمائية رئيسية إذ استطاع أن يبدع في المجال الفني الصعب الذي اصطلح على تسميته بسينما المؤلف أو السينما العالمة/المثقفة، وأن يكون واحدا من رموز الواقعية المصرية، التي كانت بداياتها مع (العزيمة) لكمال سليم و(السوق السوداء) لكامل التلمساني في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل أن تترسخ جذورها في الخمسينيات على يد كل من صلاح أبو سيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين. كما أن هذا الأخير أسس لأسلوب خاص في التعامل مع التاريخ واستلهام الأعمال السينمائية من ثناياه.

إن المتتبع للمسار السينمائي ليوسف شاهين خصوصا في مراحل نضج رؤيته الفكرية يستنتج بما لا يدع مجالا للشك أن المشروع "الشاهيني" مشغول دوما بطرح أسئلة كبرى ومقلقة في الآن ذاته تتوزع بين الذاتي والوطني والقومي والعالمي بنوع من الجرأة والشجاعة المتزاوجتين بقدر من السطحية والشعبوية أيضا. هكذا نجد أن شاهين اشتغل أساسا على أربع تيميات أساسية:

أولا، إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر ذاتية تختلط خلالها السيرة الذاتية بالصيرورة التاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية.

 ثانيا، مناقشة الدور المنتظر من المثقف العربي  للمساهمة في البناء المجتمعي العام.

ثالثا، البحث المضني على التواصل مع الآخر محليا كان أو أجنبيا.

رابعا وأخيرا، تيمية التسامح والتعايش من منظور حوار الحضارات وعالمية الثقافة وإنسانية الحضارة كما يدعو إليها العديد من المثقفين العرب، من قبيل ادوارد سعيد (الذي ظهر ممثلا في فيلم الآخر)، كانعكاس لتوجه فكري بدا طاغيا في السنوات الأخيرة، وكأننا مدعوون لتقديم قرابين الولاء لذاك الآخر والتقرب منه بالتبرؤ من حضارتنا وثوابتنا الضاربة جذورها في تكوين هويتنا المحلية المختلفة، أبينا ام شئنا، عن هويته هو.

تأسيسا على ما سبق، نجد أن يوسف شاهين يصر على أن تعامله مع الشخصيات التاريخية تعامل يخرج عن دائرة المعلوم محاولة منه لملامسة كنهها على اعتبار أن تلك مسألة مرتبطة بإحساسه الشخصي الذي لا يمكنه الاشتغال في ظل وجود من يحاول تكبيله، وهذا طرح فيه الكثير مما يقال  خصوصا إذا ما كانت القراءة التاريخية ذات أبعاد إسقاطية على الحاضر، مما يحملها أكثر مما قد تحتمل ويجعلها منغرسة في إطار بروبغندا مرحلية، تستهدف الرد على أحداث آنية بالهروب إلى ماض مجيد سعيا للتبرك بحسناته والتخفي وراء إنجازاته وعطاءات رجاله (الناصر صلاح الدين نموذجا الذي تحول فعليا إلى  الناصر جمال عبد الناصر).

أما البحث المضني، مع سبق الإصرار والترصد، عن هذا التواصل المزعوم مع الآخر ومحاولة التقرب منه والتوحد معه، فقد شكل أساس سينما شاهين خصوصا بعد ارتمائه الاختياري/الاضطراري في أحضان الإنتاج المشترك بحثا عن تألق ومجد عالميين استطاع فعلا بلوغهما (لكن باي ثمن؟). فمنذ فيلمه (عودة الابن الضال)، المستوحى من الاصحاح الخامس عشر من انجيل متى، حيث يحلم البطل (هشام سليم)  بتخطي واقعه بالهجرة إلى  أمريكا، مرورا بالجندي الإنجليزي الظريف في (اسكندرية ليه؟) والجنرال المستنير المثقف والإنساني في (وداعا بونابرت) والفارس الأوربي النبيل ريتشارد قلب الأسد وزوجته لويزا في (الناصر صلاح الدين)، نجد الآخر الديني والجغرافي حاضرا بقوة، في المشروع السينمائي لشاهين، حيث يظهر مؤنسا، وديعا، مثقفا وقابلا للتواصل الإنساني رغم أنه يشكل جزءا من المشروع الاستعماري (جندي،  جنرال،  ملك،  أمريكا....)، مما دعا النقاد إلى  اتهام شاهين بقصور نظرته إلى  الآخر وتجاهله معطيات تاريخية مؤكدة تجعل الصورة التي يقدمها عنه مبتورة ومنتقاة وكأنه يرى هذه العلاقة بنصف عين. 

ولأن العلاقة مع الآخر تستدعي بالضرورة إعمال فضيلة التسامح فقد شكلت هذه الأخيرة الحجر الأساس عند شاهين.  فمنذ اللقطات الأولى في شريط (اسكندرية ليه..)، نرى النساء المصريات يصرخن من النوافذ عطفا على جندي انجليزي  يضربه مرسي بالحذاء على وجهه، وفي الفيلم ذاته يحشر شاهين مشاهد من وثائق سينمائية عن اضطهاد النازية لليهود  دون أدنى إشارة إلى  ما يحدث في فلسطين المحتلة، وفي (المهاجر) و(المصير) يقدم يوسف شاهين التيمة ذاتها حيث يأكد في الأول أن العبراني (رام) أنقذ مصر من الخراب بعد أن تعلم من أبنائها، وهو ما اعتبره البعض تلميحا منه إلى التخلي عن فكرة الصراع والالتفات إلى  الوضع الداخلي المتردي لتحقيق التنمية المنشودة كما جاء على لسان (رام) من أن يتحول الجنود المحتشدين على الجبهة إلى  فلاحين يزرعون الارض. وفي الثاني، يستلهم شاهين بنوع من الانتقائية والتطويع التاريخي شخصية ابن رشد رمزا للتسامح الديني كرد فعل على ما كان يحدث وقتها في مصر من صراع بين الجماعات الدينية والدولة المركزية،  وهو ما أكد عليه مجددا في فيلمه (الآخر - 1999) كعنوان مباشر.  ولتحقيق ما يدعو إليه شاهين يرى أن للمثقف دورا أساسيا وفاعلا يجب عليه لعبه وهو ما دفعه إلى  إدانة ازدواجية المثقف المصري، ومن خلاله العربي، في فيلم (الاختيار) محملا اياه مسئولية هزيمة 1967، ومن خلالها استمرارية العجز والانهزامية في مجتمعاتنا وأدان  صفات الانتهازية والسلبية والانتظارية والتبعية للسلط القائمة التي ميزت ولا تزال النخب المثقفة في العالم العربي.

وبعيدا عن مناقشة الطرح الفكري ليوسف شاهين، يمكن الإقرار أن معظم الأفلام التي يقف وراء إخراجها لم تكن لتمر دون إثارة لغط ونقاش حادين لطبيعة المواضيع التي يستثمرها بحسن نية أو غير ذلك.  لكن الأهم من تلك الزوابع الإعلامية يتمثل في اللمسة الشاهينية الخاصة التي حملتها الأفلام المعنية. لمسة لم تكن لتمر دون أن تترسخ في ذهنية المشاهد،  ففي فيلم (الأرض – 1970)، لا يمكن أن ننسى مشهد الفلاح البسيط ابو سويلم مجرورا من خيول السلطة ويده متشبثة بالأرض تنزف دما فيما يرمز إلى  التشبث  بالوطن ورفض الهزيمة. كما لا يمكن نسيان النهاية المتعددة المستويات لفيلم (العصفور)، الذي صور سنة 1972 ولم يسمح بعرضه إلا سنة 1974, وفيه قدم شاهين مجموعة من النماذج من مجتمع متنافر معبر عن تخلخل الوضع الداخلي المفسر للهزيمة. في نهاية الشريط نتابع خطاب الراحل جمال عبد الناصر، حيث يعلن عن تنحيه عن السلطة، متابعا بآلاف المواطنين المنكسرين المهزومين،  وفي قطع لأحد الشوارع الخالية يظهر طفل صغير بثياب رثة يقود متسولا ضريرا عاري الصدر، ثم خروج الجماهير التلقائي إلى  الشوارع رفضا للهزيمة وتحررا من الانتظارية والخوف، وعلى الجانب الآخر نلمح سيارات للقطاع العام سائرة ضد مسار التيار الجماهيري محملة بمسروقات ستباع لأحد (اللصوص الشرعيين) فيما اعتبر دعوة صريحة للالتفات إلى  الوضع الداخلي قبل أي تفكير في مواجهة العدو الخارجي.

الأكيد أن يوسف شاهين يشكل علامة من علامات الإبداع السينمائي المضيئة بالوطن العربي بالرغم من أنه افتقد كثيرا من ذاك الإبداع والشغب الفكري منذ نزوعه الاضطراري أو الاختياري إلى  اللعب على أوتار الإنتاج المشترك. فمن وقتها وهو يقدم أفلاما بقدرما تطرح من اسئلة شجاعة وكبيرة (العلاقة مع الاخر، الدين، الجنس، العولمة....) فإنها لا تكتفي بطرح الأسئلة تلك بل تحاول تقدم إجابات هزيلة ومرتبكة. فليس معقولا أن يكون الحب مثلا حلا حقيقيا لمشكلات شديدة التعقيد كما يقترحه في (الآخر) على لسان آدم: (كان احسن نتعلم نحب بدل ما نقطع بعض حتت) وكأن كل تناقضات الواقع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تبقى مجرد سوء فهم ليس إلا. لكن خاصية شاهين الأصيلة تكمن في أنه كان أكثر المخلصين لاستمرار الجملة السينمائية الشهيرة (سكوت... حنصور)، وهي بالمناسبة عنوان  أحد أفلامه الأخيرة، الذي أتبعه بفيلم  (إسكندرية، نيويورك - 2004 )، مكملا لثلاثية سيرته الذاتية التي ابتدأت مع  (اسكندرية ليه) مرورا ب (حدوتة مصري) و(إسكندرية كمان وكمان)، قبل أن ينتهي مساره بفيلم (هي فوضى -2007) الذي يستحق أن يقول عنه أنه إخراج لخالد يوسف شاهين.