لقد أكرمني الله بمشاهد كثيرة، هامة، شاهدتها، شاركت فيها، لقد كتبت، وخطبت، وألقيت الشعر، وسرت في مئات التظاهرات، وسعيت في طول
مصر وعرضها من أجل فكرة التغيير السياسي السلمي، ولكن... ما زالت أهم لحظة في حياتي كلها هي تلك الدقائق التي أمسكت فيها الميكروفون في ليل يوم الثلاثاء 25 يناير 2011، وأعلنت فيها بدء البث في إذاعة التغيير، ومقرها ميدان التحرير بالقاهرة، وألقيت فيها مطالب المعتصمين، وأول هذه المطالب هو رحيل الطاغية
مبارك فورا، ثم أذعت نبأ سقوط أول شهيد من شهداء الثورة المصرية في مدينة السويس، الشهيد مصطفى رجب محمود...!
هذه اللحظات ستظل أعمق لحظات حياتي، وسأظل أحملها كأهم حدث في عمري كله، ولا أظنني سأفعل شيئا – مهما فعلت – أهم من ذلك.
أما أسعد أيام حياتي فهي الأيام التي امتدت منذ يوم الجمعة 28 يناير 2011، تلك الجمعة التي اشتهرت باسم جمعة الغضب الأولى (والحقيقة أنها الثانية)، واستمرت هذه الأيام حتى يوم الجمعة 11 فبراير.
هذا ليس رأيي وحدي، بل هو أمر مشترك عند سائر من شارك في هذا الاعتصام، ستجدهم جميعا ما زالوا يعتبرون أن هذه الأيام التي قضيناها في الميدان بين الخوف والرجاء، بين اليأس والأمل، بين دفء الأخوة، وسكاكين البلطجية... هذه الأيام لمن ذاقها هي أسعد أيام العمر.
جربت عشرات المرات أن أسأل عشرات ممن شاركوا في هذه الأيام (ما هي أسعد أيام حياتك؟ ما هي أسعد تجربة في حياتك؟ ما هو أسعد يوم في حياتك؟ ما هو أسعد خبر أو حدث في حياتك؟)..
جميع هذه الأسئلة إجابتها في أحداث حدثت في ميدان التحرير في تلك الفترة الرائعة.
استعادة هذه الأيام بتلك الروح بعد أن دبت الخلافات، وسالت الدماء، أمر يكاد يكون مستحيلا في القريب العاجل.
ولكن ذلك لا يمنع أن الثورة ما زالت مستمرة، وأن الانقلاب العسكري الذي فعل كل شيء يخطر في بال إبليس لقتل هذه الثورة في تراجع، ولحظة إعلان هزيمته قد اقتربت.
الثوار اليوم أنواع
النوع الأول: ثوار في الشوارع
وهؤلاء هم جوهرة العمل الوطني، يضحون بأموالهم وأنفسهم، يخاطرون بحرياتهم، قدموا كل غال ونفيس، منذ عام ونصف لم ييأسوا، بل ساروا على الجمر، ضد نظام عنصري قاتل، ولم ييأسوا برغم كل ما مورس ضدهم من خسة ونذالة.
النوع الثاني : ثوار على جمر الانتظار
ينتظرون ساعة النفير، مستعدون للتضحية بكل شيء في سبيل انتصار هذه الثورة العظيمة.
يحول بينهم وبين الحركة سوء التنظيم، وعدم انتمائهم لحركات أو جماعات منظمة بعينها.
إنهم الطاقة التي ملأت الميدان مرات ومرات، دون أن يتقدموا لمنصب، أو يبدوا رأيا على الشاشات.
إنهم شباب مصري لا هم له سوى نصرة هذه الثورة، وتغيير هذا البلد.
النوع الثالث : ثوار على الكنبة
تمكن اليأس منهم، وقد استسلموا له، يظنون أن الثورة نزهة وانتهت نهاية حزينة، يحسبون أنه من الممكن أن يكون هناك ثورة بلا تحديات.
تحيزاتهم الفكرية ومراراتهم النفسية أعمتهم عن رؤية حقيقة ما يجري في الشوارع والجامعات، وإذا قيل لهم (الثورة مستمرة) يردون بأنها ثورة ساذجة، وإذا قيل لهم (ماذا عن آلاف المتظاهرين في الشوارع؟) تراهم يردون بكلام عنصري، يتحدثون عن سعي هؤلاء للسلطة، وأحلام أولئك بالخلافة، وتبريرات لا حصر لها لكي يستمر جلوسهم على الكنبة.
أسوأ صنف من هؤلاء هم المثقفون الذين حولوا أنفسهم إلى ماكينات لنشر اليأس، تارة باسم العدمية الإيجابية، وأخرى باسم الواقعية السياسية، وثالثة باسم انتظار اللحظة التاريخية المناسبة... الخ.
فلا هم يعملون، ولا هم يتركون الآخرين (ممن لم ييأسوا) يعملون!
النوع الرابع: ثوار في ماخور السلطة العسكرية
وهؤلاء هم شر الناس، إنهم الذين باركوا القتل، واستحلوا الدماء، ولم تحركهم الانتهاكات، فلم يعترضوا على الاعتداء على الأعراض، ولا على سجن القصر، ولا تجاوز الخطوط الحمراء في مجتمع شرقي باحتجاز النساء، ولم ينطقوا باستنكار فصل الطلبة من دراستهم، ولا بالحجز على أموال الشرفاء... هؤلاء أراد الله لهم خاتمة السوء.
غباء النظام يوحد الثوار، ويجدد الأمل، ويقرب الكتلة التي تنتظر ساعة النفير من الالتحام بالكتلة التي في الشارع، وأحكام البراءة المتوالية، تذكر الثوار بجريمة تسليم الثورة لأعدائها، ومشاهد المعتقلين خلف القضبان، تثير شجون من هم خارجها.
إن أعظم عمل يمكن أن يقوم به كل وطني اليوم هو أن يدعو لاصطفاف ثوري يجمع شمل سائر المؤمنين بحق هذا الشعب في حياة كريمة.
كثير من الثوار يظنون دعوات الاصطفاف ترفا، ولكن النظام يعلم جيدا خطورة دعوات توحيد الثوار عليه، ولا عمل له سوى التأكد ليل نهار من أن كل فصيل ثوري ما زال بعيدا عن الآخرين.
الضمانة الأولى وربما الوحيدة لاستمرار هؤلاء المرعوبين في السلطة ليس الدبابة، بل تفرق الثوار، لأن توحد الثوار يستطيع أن يهزم الدبابة في زمن قياسي، أما تفرقهم فيعفي الدبابة من خوض معركة حقيقية من الأساس.
النظام يعلم جيدا أنه هزيمته لا يقدر عليها فصيل واحد، وأن هزيمته ستحدث في اللحظة التي يتوحد فيها غالبية الناس ضده.
لقد تراجع غالبية العقلاء عدة خطوات إلى الخلف، وتقدمت المسؤولية الوطنية عدة خطوات إلى الأمام، وفي منتصف الطريق بين العقلاء تتوهج لحظة حسم، لا يعلم موعدها إلا الله.
الفشل الاقتصادي والسياسي الذريع الذي وصل له نظام على رأسه ساذج يوحي بأن ساعة الحسم ستقوم خلال أمد قريب جدا !
الرغبة في التغيير السلمي التي يدفعها إخلاص هذا الجيل تؤكد أن
ثورة يناير حدث لا يمكن تجاوزه، حتى لو لم يعرف الثوار ذلك، فإن الرعب الذي تتصرف به أجهزة الأمن في يناير من كل عام يدل على أنهم يدركون جيدا أن يناير (آخرا) قادم قادم، وكل ما يفعلونه الآن ليس أكثر من محاولة تأخير الطوفان !
يا لحظ ثورة يناير ... إنها محشورة بين نظام يدرك خطورة توحد الثوار ضده، وثوار لا يدركون أهمية توحدهم عليه !
أبشركم... يوم الخلاص قريب، وسيأتي بعد أن نقف صفا واحدا أمام الحكم العسكري.
سنلتقي قريبا في الميدان يا ثوار مصر
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: arahman@arahman.net