يستعر الجدل في
تونس حول
الحكومة القادمة. وكأنها ستكون فعلا حكومة تغيير جذري قادمة بعد ثورة ومرحلة انتقالية مضطربة. وكما لو أن الدستور الذي أفرزته المرحلة الانتقالية سيوضع فعلا حيز التطبيق. ونمر إلى الجمهورية الثانية طبقا لتقاليد سياسية ديمقراطية تترسخ بثقة واقتدار. هناك مسائل مربكة طفت منذ الآن على السطح السياسي وتوشك أن تجعل المرحلة القادمة مضطربة فعلا وغير قابلة لإنتاج حالة السلام الاجتماعي المفضية إلى البناء الديمقراطي.
• بقطع النظر عن تركيبة الحكومة القادمة وهل ستكون قادرة على الخروج من سياق حكومة مناولة لرأس المال الأجنبي؟
• ما هي خطتها لبدء مسار الاستقلال الاقتصادي أو على الأقل تخفيف أعباء التبعية وهي حكومة خليط من كل شيء؟
• هل ستكون قادرة على الحفاظ على وضع الحريات المكتسبة منذ
الثورة أم أنها ستلجم الأفواه لتفرض خياراتها الاقتصادية العسيرة الهضم؟
الرئيس منشغل بمظهره و صلاحياته
دخل الرئيس المنتخب حملته الانتخابية بشعار إعادة هيبة الدولة الضائعة وبسرعة.وفهم الناس الهيبة كمرادف للقوة الغاشمة في استنساخ نموذجي لتجربة الحكم البورقيبي الذي يعتز الرئيس العائد من عهده بأنه نبيه وملهمه في سُبُل الحكم. لكن الأمر فيما يبدو يتخذ شكل الشكل دون المضمون. فقد حرص البروتوكول على إبراز الرئيس بمظهر السلطان في تناقض تام مع تواضع الرئيس المرزوقي. وأقيمت مسافة فاصلة بينه وبين الإعلاميين وفصل عن كل لقاء بالناس ورفع مجلسه فوق مجلس ضيوفه فأشرف عليهم من عل لتشرئب رؤوسهم إليه. في عملية استعادة كاملة لبروتوكول بن علي رسمت من جديد المسافة الفاصلة بين الحاكم والمحكوم التي ذوبها المرزوقي وهي التي بدت لدى ساكن القصر العائد من التاريخ أهم مظهر من مظاهر هيبة الدولة. وقد كان يوم التنصيب فضيحة بروتوكولية وأخلاقية مذلة لفاعلها قبل ضحاياها. لقد فُرز الضيوف وأقصي شهداء الثورة. ووسمت مؤسسات خدمت نظام بن علي وحافظت على وجوده ثم إعادته بوجه جديد. فيما أهالي الشهداء يفترشون رخام القصر البارد في صباح شتوي ماطر.
يوم التنصيب كان يوم استعادة بناء حلف الحكم القديم وشكله وإعادة شخصنة المنصب والتأثير بشكله لا بمضمونه. وقد دل المسار على غيبوبة كاملة (أو تغيب واع) عن واقع الناس ومطالبهم. لذلك أحيلت مطالب الثورة إلى حكومة لا تزال محل صراع مواقع بين لوبيات الضغط.
الحكومة ستتحرك في هامش ضيق
قبل أن تقوم لها قائمة وتشرع في عمل غير معلوم لأنه لم يظهر في أي برنامج انتخابي فإن حكومة الصيد تتجاذبها الرياح من كل جهة، وربما تغرق في مدة قريب لأنها تضطر الآن إلى جمع خليط متناقض من القوى السياسية لا يمكنها أن تعمل معا لمدى طويل، فضلا عن أنها ستكون مقيدة الصلاحيات بما يريده ساكن قرطاج من صلاحيات حد الدستور منها منعا لتغول الرئاسة على الحكومة.
ستتشكل الحكومة في ما يتسرب الآن من أخبارها المكشوفة (إلا لمن يتعامى) من أحزاب ليبرالية التوجه. بما يوحي بانسجام ظاهر في الخطة، لكن الخطة الليبرالية تملك ممرا واحدا نحو تحقيق أهدافها هو المزيد من ربط الاقتصاد المحلي بالتمويل الأجنبي. وعليها فوق ذلك أن تشرع في إعداد الاقتصاد للدخول في مرحلة خدمة الدين بنسق سريع سنة 2017. وعمادها الآن على رأس مال محلي محدود القدرات وعلى نظام بنكي غير شفاف لم يفلح في تنقية موروث العهد السابق لما لقوة اللوبي البنكي والمالي من سلطة على كواليس الحكم منعت كل تنقية للفساد. يتذكر الجميع أن رأس المال المحلي لا يعمل على تحقيق تنمية اجتماعية ضمن مشروع وطني بل هو مؤسسات فردية تشتغل في المناولة بأخف شروط على رأس المال المناول ضمن هدف وحيد تحقيق مكاسب لصاحب رأس المال. وقد أعجزت هذه الرساميل الأنانية نظام بن علي نفسه رغم كل الحوافز والتشجيعات التي وضعها على ذمتها بقانون الاستثمار (120/93) لإعادة الانتشار في المناطق المحتاجة للتنمية. وكانت سببا في انهيار نظام بن علي وهي الآن أقوى بحكم ما قدمته من أسباب لعودة نظام تعرف طبيعته بل صنعته على هواها.
ليس أمام هذه الحكومة إلا الخيار الليبرالي المتوحش المتناقض بشكل جذري مع مطالب الثورة الاجتماعية التي هزت النظام السياسي ولم تفلح في خلخلة قاعدته الاقتصادية فأعادت هذه القاعدة الانتشار منذرة بالمزيد من التفقير والتبعية عبر الانخراط في نظام المناولة الدولية التي عرفت نتائجه وأساليبه منذ الثمانينيات. لقد كان يجب أن تبرز حركة اجتماعية قوية تقود البلاد في اتجاه فك التبعية وكان منتظرا من اليسار أن يشكل هذه الجبهة، لكنه لم يفلح في الخروج من براديقماته القديمة القائمة على استئصال الإسلام السياسي باعتباره أولوية الأولويات لديه.
اليسار مشغول بملفه القديم: الاستئصال
هذه خيبة كبيرة من خيبة الثورة التونسية خاصة والربيع العربي عامة. فاليسار العربي لم يخرج من خريطة طريقه الخاصة. التي يسترزق منها منذ نصف قرن تقريبا. انتظر كثير من الحالمين المنتمين لليسار والمتعاطفين مع الأطروحة الاجتماعية لليسار أن يتقدم اليسار الصفوف حاملا لواء المسألة الاجتماعية ليضع مطالب الثورة على طريق التنفيذ الفعلي من قبل من تفرزه الانتخابات. المتفائلون جدا كانوا ينتظرون اليسار بفصائله المتعددة في منعرج السلطة ليدفعوا به ومعه هذه الأطروحة، لكن رياح اليسار جرت بخلاف ما طمحت إليه الثورة. لقد حشر اليسار نفسه في ما يتقن القيام به محاربة الإسلاميين فقط، دون مراجعة لمقتضيات المرحلة ومطالب الربيع العربي التي فرضت وجود تيار الإسلام السياسي كتيار وطني يفاوض على وجود شرعي وعلى مشاركة في السلطة.
لقد أسقط اليسار بأذرعه النقابية والإعلامية حكومات الإسلاميين في المرحلة الانتقالية وبالتحالف العاري مع النظام القديم (عسكر السيسي وحزب التجمع الذي غير كسوته) وصار ممكنا تحجيم وجودهم ثم المشاركة معهم على أساس برنامج اجتماعي. لكن ذلك لم يحدث الشيء الذي يدفع الإسلاميين إلى حلف ليبرالي على خلاف انتظارات قواعدهم المفقرة التي وجدت نفسها من جديد بين خطر الاستئصال أو الرضا بأقل المكاسب، أي سلامة جسدهم السياسي الذي يتعافى من حرب إبادة نوعية شارك فيها اليسار وشرع لها ونظرها كعمل تقدمي. وأمام تقدم المشروع الليبرالي المتوحش وتمكنه بواسطة حكومة مسنودة من الخارج الفرنسي خاصة (وهو الأب الروحي لليسار التونسي) سيجد اليسار نفسه مقصيا من الرد لضعف تنظيمه وغياب أحلافه، خاصة بعد استنزافه الغبي للمنظمة النقابية ووضعها في تناقض مع مصالح منخرطيها من الطبقة الوسطى.
المشروع الاجتماعي مرمي على قارعة الطريق السياسي
هكذا يبدو المشهد قبل إعلان ميلاد حكومة المناولة حكومة تستجدي عطف الإسلاميين، وإسلاميون يعلنون إسناد المرحلة للخروج منها بأخف الأضرار ويسار مصر على عزل نفسه. فمن لمطالب الثورة الاجتماعية ومن للتأسيس الثقافي لمشروع ربيع عربي يؤمن بالتغيير الجذري لأشكال السلطة وممارساتها غير السلطانية؟
هذا المنطقة فارغة وتدعو فاعلين مؤمنين بسباقات المسافات الطويلة للتأسيس. ونعتقد أن هناك الآن في المشهد فاعلا اجتماعيا قد بدأ يعلن عن نفسه وسيكون معارضة عالية الصوت لمسار رهن البلد لقوى السوق المتوحشة بمناولها الداخلي المشغول فقط بمكاسبه الفردية.