المشهد التونسي بين سطوة القديم وتأخر الجديد

ربّما سيبقى الجزء الغالب من المتابعين للشأن العام يلوكون ما يتم توجيههم إليه وينجذبون وراءه بالعاطفة أكثر من العقل لسنين، إذا لم نوقف هذا الدوار الذي أصاب الكل فألقى بظلاله على كلّ شيء وربّما لن نخرج من حلقة إجترار نفس المفاهيم والمصطلحات وحتى السرديات برمّتها التي أكل عليها الدهر وشرب وبان جليّا أنّها موجّهة أو في غير محلّها رغم احتوائها على جزء من الحقيقة، بحكم تعلّق الناس بها على منهج ما ذهب إليه هيغل في حديثه عن العلاقة بالحقيقة أو ربّما سيبقى بعضهم يدور في حلقة مفرغة على مبدأ الماكيافيليّة، وربّما على غير هذه المناهج سيبقى السواد الأعظم يسير دون سياقات منطق التطوّر محاولا صعود السلّم من الأعلى.

أزمة إنتاج المعنى لدى النخب التونسيّة

كان ظاهرا للناظرين خلف خطابات وكتابات النخب السياسيّة أن عقما فكريّا قد سطى على "اللحظة الاستثنائية" التي تعيشها البلاد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وتجلّى ذلك في البداية من خلال إضاعتها للمدخل المنهجي للشأن العام بعلم أو بغير علم حتّى أن أغلبهم فقد عنصر رصد ميكانيزمات ما يحيط به فإنساق إلى تحاليل مبتورة أو مسقطة على واقع لا يحتمل الإسقاطات ولكن فيه من قابليّة التأثر الشيء الكثير ويمكن اعتبار ذلك نتيجة حتميّة لصدمة الانتقال من هامش الحياة السياسية إلى مركزها دون إدراك لمراحل وسياقات التفكيك والتحليل وإعادة التركيب.

اللحظة السياسيّة الجديدة التي تلت انفجارا شعبيّا جرّاء إشتباك الضحايا مع الجلاّدين بكل ما تضمّنته من شعارات وتضحيات وممكنات واجهها السياسيّون بمنطوق رديء إغتال المعاني وممارسة أقرب إلى الاحتواء والتسيير والتملّق في فترات معيّنة ما جعلها تسعى إلى قولبة الحراك وأدلجته أكثر من تحقيق غاياته وأهدافه إمّا لتضارب في غايات الحراك نفسه مع مصالحها أو لعجزها عن الانخراط فيه، كل هذا نتج عنه إعتقال للثورة وشعاراتها النبيلة في بيروقراطيات متشابهة رغم اختلاف خلفياتها أطلقت هي نفسها سراح "نطّاق بلاطاتها" المترهّلين لدمغ جمهور المنتفضين غير المؤطّرين بدوغمائيّات همّشت مطالبه الرئيسيّة وفتحت جبهات هامشيّة أغرقت بها المشهد في الإسفاف وردّت الفعل الانفعاليّة التي تشوّه "فكرة الثورة" بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

هذه النخب المترهّلة التي صنعت الفشل والأزمة ولم تقدّم البدائل الجديّة ما زالت هي نفسها مصرّة على الدّخول من الشبّاك لعجزها أو لخوفها من طرق الأبواب الحقيقيّة التي تزاحمت حشود المنتفضين لخلعها وتدخّلت النخب ذاتها للإبقاء عليها موصدة.

"الحشود" بين سطوة الموجود والبحث المتواصل عن المنشود

من المعلوم أن من يؤمنون بالثورة ومن يدافعون عنها حتى الرمق الأخير هم أقلية في مجتمعاتهم ولكنّهم هم أنفسهم قد يتحوّلون إلى سبب من أسباب فشل الثورة في وقت معيّن فجزء كبير منهم بعلم أو بغير علم ستقنعه خطابات النخب الدوغمائيّة وجزء آخر سيسقط في النقيض بحثا عن البديل، أمّا السواد الأعظم فسيبقى على الربوة رغم إنخراطه من حين لآخر في بعض المعارك والاشتباكات مع النظام ولعلّ من أسباب ذلك تفاقم اتّساع الهوّة بين المجالين الرسمي الذي تمثله النخب المترهلة وأدركت الحشود لاحقا أنّه لا يمثلها والشعبي الذي أصبح اجتماعه حول المثقّفين الجذريين الذين يتماهون معه منطلقا للتفكير بعمق في حلول عمليّة لتشبيب المشهد السياسي رغم تعرّض هؤلاء المثقّفين إلى الإقصاء والهرسلة الإعلاميّة وحتى السياسيّة لتواجدهم خارج النسق التقليدية للتفكير والفترينات المدنية والسياسيّة المرتهنة لدى النظام البائس بشكل أو بآخر.

شجاعة الإقدام على تقييم سلوك المنتفضين واعترافهم بوجود انحرافات باسم الثورة فيه إذا ما إلتقت مع إجماع ولو نسبي على ترهّل النخب القديمة وعدم قدرتها على التفكير بجديّة في البدائل الحقيقيّة قد تكون من ضمن مقدّمات جديّة للتفكير بأسلوب أفقيّ في تجديد أساليب الاشتباك مع المنظومة القديمة أطرا وبدائل عمليّة، وهي مسؤوليّة مشتركة بين نخب المثقفين الجذريين تفكيرا وتنظيرا وكل أصحاب المصلحة من الثورة إنخراطا وإشتراكا في مقاومة شعبيّة ديمقراطيّة وطنيّة لن يكون عائقا أمامها سوى نخب الفشل نفسها التي ستحاول بشكل أو بآخر الانقضاض مجدّدا على كلّ تلك الأفكار النبيلة والكبيرة والمافوق سياسيّة لتحويلها إلى دكاكين جديدة بنفس آليات التفكير وأساليب الممارسة.