يتحول نقد
الإخوان في مصر لدى البعض إلى
مهنة شيئا فشيئا، بينما يصبح هذا
النقد لدى آخرين مجرد "ممارسة ضرورية للاستمرار بالمهنة"، ونعني مهنة الكتابة.
الحديث هنا طبعا ليس عن "كتيبة" الإعلام التابعة والممولة من المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية وكفلائها، فهؤلاء خارج النقاش، باعتبارهم يتخذون من الردح، لا النقد، مهنة يعتاشون منها، ولكننا نعني أولئك الذين يعلنون صراحة معارضتهم لسلطة الانقلاب، ورفضهم لجرائمها.
هؤلاء يضطرون، بقرار ذاتي وبقراءة واعية للواقع على ما يبدو، أن يمارسوا مهنة هجاء الإخوان في أي مقال، أو "بوست" في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى يضمنوا الاستمرار في مهنة الكتابة، ويضطرون لذلك أن يحتوي أي مقال لهم على كلمة "مرسي" مرفقة بشتيمة أو وصف جارح بعدد يفوق ذكرهم
لكلمة "السيسي" مرفقة بنقد قوي، ولكنه مهذب على أية حال، في نفس المقال.
ولا بد أيضا أن يسهب أي مقال في شرح فظائع الإخوان وأخطائهم و"جرائمهم" بعدد من المرات يفوق ذكر العسكر ونظام الانقلاب وأخطائه، حتى بات يظن أنهم يقومون لهذا الغرض باللجوء إلى تقنيات "مايكروسوفت وورد" في البحث وتعداد الكلمات ليضمنوا أن الشتائم الموجهة لمرسي أكثر من كلمات النقد الخالي من الشتائم للسيسي!
ولسنا هنا بوارد الرفض لنقد أداء الإخوان في الحكم وفي المعارضة وبعد الانقلاب، بل إن النقد لأي حركة سياسية أو اجتماعية يجب أن يكون في صلب اهتمام وعمل صانعي الرأي والكتاب والإعلاميين والسياسيين، ومن المؤكد أن أي متابع للشأن السياسي المصري لن يعجر عن إيجاد عشرات الأخطاء لجماعة الإخوان، وهو أمر محتمل ومتوقع من أي حركة أو حزب أو مجموعة تمارس العمل السياسي.
ولكن المشكلة أن هؤلاء الممتهنين لنقد الإخوان يمارسون مهنتهم بانتقائية واضحة، والأهم والأخطر من ذلك، أنهم ينزعون الأحداث والممارسات الإخوانية من سياقها، ما يجعل نقدهم أشبه ما يكون بذكر نصف الحقيقة وإخفاء نصفها الآخر.
ولاشك أن أي عمل نقدي لأي مجموعة بشرية لا يمكن أن يكون موضوعيا وحقيقيا وعلميا إلا إذا وضع في سياقه التاريخي، وترافق مع مقارنة أداء هذه المجموعة مع نظيراتها من المجموعات الأخرى المنافسة أو المعادية. ولذلك لا يمكن مثلا محاكمة "السجل الحقوقي لدولة المدينة" في اليونان بناء على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وضع في النصف الأول من القرن الماضي، بل بوضعها بسياقها التاريخ، وبمقارنتها بالسجل الحقوقي للمجتمعات البشرية التي سبقتها أو تزامنت معها.
ويبدو أن ممتهني نقد الإخوان لا يدركون هذه الشروط الموضوعية للنقد، أو أنهم يتناسونها بوعي وإدراك كاملين، حين يمارسون النقد لجماعة الإخوان وكأنها حركة وجدت وعملت في "الفراغ"، وكأنها الفاعل الوحيد في الساحة السياسية المصرية منذ الفراعنة إلى اليوم!
فحينما ينتقد هؤلاء قبول الإخوان لممارسة دور "تجميلي" لنظام مبارك من خلال المشاركة في الانتخابات البرلمانية في السنوات التي سبقت ثورة يناير، يتناسوا أن جميع اللاعبين السياسيين في تلك الفترة باستثناء بعض الحالات "الشاذة"، كانوا جزءا من العملية السياسية "المباركية"، بل إن بعض خصوم الإخوان اللدودين اليوم كانوا يمثلون غطاء سياسيا حزبيا لمرشحي الإخوان، وكانوا يحصلون بالمقابل على دعم الجماعة للحصول على أصوات تؤهلهم للفوز. وفي نفس الوقت، لم يكن أي إعلامي يجرؤ أن يسيء إلى مقام الرئيس، باستثناء حالات محدودة جدا، تبين فيما بعد أن من قاموا بها كانوا جزءا من عملية الصراع التي كانت تدور بين الجيش ومبارك حول التوريث في ذلك الوقت.
لم يكن الإخوان ثوريين فعلا في زمن مبارك، بل كانوا مجموعة إصلاحية بسقف منخفض، ولكن سقفهم لم يكن أخفض من أي حزب أو حركة سياسية أخرى في ذلك الوقت، ربما باستثناء حركة كفاية التي كانت خارج النسق الحزبية المنظمة في ذلك الوقت.
وحينما يلعن هؤلاء المنتقدون جماعة الإخوان بسبب سياستها التصالحية مع الجيش أثناء حكم مرسي، وينتقدون دفاع شباب الإخوان عن العسكر وانخداعهم بوزير الدفاع "الذي يصلي الفجر ويصوم الإثنين والخميس ويبكي في صلاة الظهر ويمشي في الطرقات!"، فإنهم يسكتون عن ذكر نصف الحقيقة الآخر، وهو أن كل من عارضوا الإخوان أثناء حكم مرسي، لم يوجهوا سهام نقدهم في ذلك الوقت للعسكر، بل كانوا خلال تلك الفترة يتغنون "بالدور الوطني للجيش" الذي سيخلصهم من مرسي والإخوان، وقد سالت لعابهم حتى بللت الأرض حينما دعا وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي في 12 ديسيمبر 2012 لاجتماع للقوى الوطنية لنقاش تداعيات الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي.
وكما هو الحال في المثالين السابقين، فإن استعراض كثير من الأخطاء التي يطرحها ممتهنو نقد الإخوان بشكل بات مكرورا، ووضعت في سياقها التاريخي، فسيظهر أنها أخطاء وقعت فيها كافة مكونات المجموعة الوطنية المصرية، مع بعض الاختلاف في التفاصيل، ومع بعض الاستثناءات القليلة من شباب الثورة الذين كانوا يمتلكون رؤية "ثورية" في كافة المنعطفات التي شهدتها مصر خلال السنوات الماضية.
خلاصة القول، أن جميع القوى المصرية ومن ضمنها الإخوان ارتكبت أخطاء قاتلة منذ يناير إلى اليوم، وقد أدت هذه الأخطاء إلى ضياع الفرصة بتحقيق مطالب الثورة بالحرية و"العيش" والعدالة الاجتماعية، وربما كان من الضروري أن تمر الثورة بالانتكاسة الحالية لأن القوى السياسية التي شاركت بها كانت جزءا من مرحلة نظام مبارك بكل تشوهاتها وسقفها المنخفض، ولذلك فلن تنتهي الانتكاسة التي أصابت الثورة إلا بتغيير آليات وعقلية هذه القوى، وهو الأمر الذي ينطبق ليس فقط على الإخوان كما يقول البعض، بل على جميع القوى السياسية والشخصيات، بما فيها أولئك الذين باتوا يتعاملون مع نقد الإخوان كمهنة!