(إلى الراحل
غسان تويني)
لا بد أولاً من التنويه الإيجابي بردود الفعل الصاخبة التي صدرت من كثير من المثقفين اللبنانيين على المادة
العنصرية التي نشرتها جريدة «النهار» اللبنانية عن «السوريين الذين ازدحم بهم شارع الحمرا» فبات هذا، في رأي كاتبها المدعو حسين حزوري، يستحق اسم «شارع السودا».
ربما جاء نشر «النهار» للتحقيق المذكور، بصورة متزامنة مع قرار الحكومة اللبنانية بفرض الفيزا على اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم حرب نظام الأسد الكيماوي عليهم، نوعاً من إضفاء غطاء «قيمي» على الإجراء الجديد. والقيمية المقصودة هنا هي المنظومة «الأخلاقية» للرجل الأبيض المتفوق جينياً على الملونين، وبخاصة العرق الأسود. فـ«تحقيق» النهار يدغدغ نوستالجيا بيروتية مزعومة عن مدينة «بيضاء» تشرب القهوة على أغنيات فيروز، بعيداً عن «السواد» كلون بشرة، كما كمرادف لـ(العامَّة) المغفلة من الملامح الشخصية والروح الفردية.
غير أن التحقيق المزعوم لم يأت، في ذلك، بجديد سوى بوقاحته الفظة. فلم ننس بعد أعراض العنصرية اللبنانية التي أعلنت عن نفسها بصخب أيام «انتفاضة الاستقلال» وقد حققت إنجاز طرد جيش النظام الكيماوي من لبنان، مع «أعراض جانبية» أدت إلى قتل عدد من العمال السوريين والتنكيل بأعداد أخرى. شاع وقتها لدى جيل شاب من اللبنانيين ممن تربوا في ظل الاحتلال الأسدي الكيماوي، تعبير «بائع الكعك السوري».
وها هو شاب آخر من الجيل نفسه وقد تحول إلى صحافي وحمل اسم حسين حزوري، ينتقل من تعيير السوري ببيع الكعك إلى تعييره بلون بشرته المفترض. وهذا ليس بالقليل، أعني الانتقال من شرط اجتماعي – اقتصادي، أو ربما ثقافي في أسوأ الأحوال، إلى شرط جيني طبيعي لا يد للمرء في اختياره، فضلاً عن جهلنا لمدى مطابقته لموضوعه: هل
السوريون سود واللبنانيون بيض حقاً؟ أم أن الأمر يتعلق بمجاز لغوي للتعبير عن تراتبية عنصرية إيديولوجية أكثر منها واقعية؟ نميل، في محاولة للإجابة، إلى الاحتمال الأخير، ليس فقط بسبب الحقائق «الجينية» العنيدة، بل لأن العنصرية التي نحن بصددها تتجاوز لبنان إلى الداخل السوري نفسه وإلى النظام الدولي.
ففي سوريا، يمكن القول إن الطبقة الحاكمة – المالكة غير المبرأة من اللون الطائفي، طورت نوعاً من التمييز العنصري على مدى العقود السابقة، وبخاصة بعد توريث الحكم من حافظ الأسد إلى ابنه الثاني بعد مصرع «الوريث الشرعي» باسل في حادث سير طائش. لم يكتف الوريث بشار الذي أورثه جبروت الأب الطاغية لثغة دالة في النطق، إلى جانب علل أخرى كثيرة، باحتقار «العامة» (السواد) من خلال ما أسماه السوريون بـ«الرمرمة» (نسبةً إلى ابن الخال رامي مخلوف) أو ما أطلق عليه الإعلام الغربي «الموالي» بـ«اللبرلة» على الطريقة السورية؛ بل إنه تجاوز أباه في التزام الأخير بالتقية الطائفية، فسمح بصعود «العلوية الثقافية» باعتبارها ثقافة العرق الأبيض السيد في سوريا.
دفعاً لكل التباس واتهام: ليس كل العلويين طبقة حاكمة – مالكة، بل أكثريتهم العددية من الفقراء والمعدمين. ويشكل ذوو المنبت السني، بالمقابل، قسماً كبيراً من الطبقة ذات الامتيازات. لكن العبرة، في تحديد طائفية النظام، ليست هنا، بل في أن «السني الجيد هو السني الموالي» (قبل الثورة) ليتحول الأمر بعد اندلاع الثورة إلى «السني الجيد هو السني الميت أو المهجر خارج البلد».
الاقتباس التالي من تحقيق للصحافي الأمريكي روبرت وورث الذي قام بجولة في المناطق الموالية في العام 2012: «تحدثت عن الانتفاضة امرأة علوية شابة في اللاذقية، كانت قد قضت وقتاً في الولايات المتحدة، بمصطلحات عنصرية بارزة: بدأت الاحتجاجات بشكل جيد، ولكن بعد فترة أصبح الناس المشاركون من غير المتعلمين. هم يشبهون مثيري الشغب عندكم في ديترويت عام 1967. أناس فاشلون وليسوا صالحين، يشبهون السود في الولايات المتحدة. هؤلاء البرابرة الذين نتحدث عنهم هم فقراء الريف والضواحي وغالبيتهم العظمى من السنّة وهم العمود الفقري للمعارضة، ومن
المحتمل أنهم يشكلون نصف عدد سكان سوريا».
غير أن «رجل الدين المسيحي المحترم» المدعو جبرائيل داوود الذي يتحدث عنه تحقيق روبرت وورث نفسه، يبدو «أكثر علوية» في كلامه من المرأة العلوية نفسها. لنستمع إليه:
«الأقليات تعبير مزيّف. يجب أن نهتم بنوعية البشر وليس بكميتهم. تعبير الأقليات يعطيك فكرة أنها صغيرة وضعيفة، ولكننا نحن السكان الأصليون لهذا البلد». ابتسم الأب داوود بتكلف عندما تحدث عن المحتجين ومطالبهم بالحرية، وقال: «إنهم لا يريدون الحريات بل يريدون الحوريات: العذراوات ذوات العيون السوداء اللواتي وُعد بهنّ مفجرو القنابل الانتحاريون في الحياة الآخرة». تحدث داوود بمرارة عن خطف مطرانين مسيحيين لم يعرف مصيرهما بعد، ثم قال: «المتمردون قد يكونون سوريي الجنسية ولكن عقليتهم ليست سورية. نحن فخورون بعلمانيتنا. لا نستطيع العيش مع هؤلاء البرابرة».
هذه هي فلسفة الأبارتهيد التي تطورت في «سوريا الأسد» بالتدريج منذ انتصار النظام على المجتمع السوري في حرب 1980-1982، وتخلت عن كل تحفظ (تقية) بعد توريث الحكم في العام 2000، يعبر عنها رجل الدين المسيحي الذي لم يشعر بحاجة إلى إخفاء اسمه، و«المرأة العلوية» التي عاشت في الولايات المتحدة، كما يعبر عنها «السني الجيد» فيصل المقداد أو المفتي بدر الدين حسون -إمام العلمانية والخلايا الانتحارية النائمة في أوروبا معاً- في كل مناسبة. فلسفةٌ تحتقر «سواد» السوريين حتى لو كان بعضهم برصاً.
أما على مستوى العالم، فأربع سنوات من المجزرة المستمرة بحق السوريين، بما في ذلك مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، كانت كافية لمعرفة ما يفكر فيه العرق الأبيض العالمي عن الدم السوري الرخيص بالمقارنة مع أي دم آخر. حتى الكردي المستباح منذ قرن، بات يجد من يناصره ويمده بأسباب الدفاع عن النفس. حتى الفلسطيني الغارق في «سواده» أمام الإسرائيلي «الأبيض» (حتى لو كان هذا من يهود الحبشة) وجد دولاً تعترف بكيانه الوطني، وإن بتأخير كبير. مقابل إعادة فتح سفارة العرق الأبيض السوري في الكويت.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)