كتب
عبد الوهاب بدرخان: في اليوم نفسه، الخميس الماضي، كان الرئيس الروسي يقول لمواطنيه إن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلاد ستستمر سنتين «في أسوأ سيناريو»، وكان جنرال أميركي يعطي لمن يهمهم الأمر أول تقويم «واقعي» للزمن الذي ستستغرقه «الحرب على داعش» وهو ثلاث سنوات على الأرجح... ليست هناك وعود أفضل من هذه في موسم أعياد نهاية السنة 2014، فهي كـ«الهدايا» مغلّفة أيضاً بالألوان المتفائلة بأن خروج
روسيا (والجمهوريات التابعة لها) من الأزمة «حتمي»، لكن فلاديمير
بوتين لا يقول كيف بل يعتبر أن المواجهة الحالية مع الغرب كانت أيضاً حتمية. وثمة تفاؤل أميركي كذلك بأن الغد سيكون أفضل في الشرق الأوسط، بعد القضاء على التنظيم الإرهابي الذي أظهر أسوأ النماذج للوحشية، وقد يُقضى عليه لكن بثمن باهظ جداً من ضحايا مدنيين وتدمير لمقوّمات الحياة.
استطاع بوتين خلال شهور أن يعيد الروس إلى مستوى معيشي يشابه ما كانوا عليه في العهد السوفييتي. فانهيار
الروبل ليس سوى عنوان ومؤشر لانزعاج أقلية روسية انخرطت في اقتصاد السوق أو تقافزات الأسهم ولم تتأثر حياتها اليومية، ولكن الغالبية الواسعة من الشعب ضُربت في معيشتها بسبب غلاء السلع الأساسية وهبوط قدرتها الشرائية. ويعتقد بوتين أن الروس يجارونه في أحلامه ومشاريعه، بل مستعدون للتضحية من أجل انتصار روسيا في مواجهة جديدة مع دول الغرب. فالتسوية في أوكرانيا كانت ولا تزال ممكنة ومتاحة، لأن شعبها منقسم بين شرق وغرب، لكن جميع فئاته كانت تبحث عن علاج للأمراض المزمنة لاقتصادها، لا عن حرب أهلية ينهار معها الاقتصاد ووحدة البلاد.
كل ما في سياسات بوتين يدلّ على أنه مدفوع بالوساوس السوفييتية، ذاك أن الرجل الاستخباري المخضرم لم ينسَ مرارات سقوط الشيوعية و«الإمبراطورية الاشتراكية» ولم يستطع أن يبني «عظمة» روسيا على مفاهيم جديدة. قد يكون معذوراً لأن القطب المقابل، الأميركي، لم يفعل الكثير بدوره لبلورة رؤية لقيادة عالم ما بعد الحرب الباردة نحو سلامٍ ما. لكن، مع أوباما، ربما كانت هناك فرصة، طالما أن صفة «الرئيس المحارب» ليست هاجسه، بل لا يهمه أن يحارب، ولا يضيّع فرصة لتفادي حرب حتى لو كانت على حساب المبادئ والأخلاق الإنسانية، كما فعل بمشاركة روسيا تحديداً في لفلفة قضية استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي ضد شعبه. وعشية ذاك كان أوباما يستعد لزيارة «تاريخية» لمناقشة القضايا الاستراتيجية الساخنة مع بوتين، استناداً إلى تجربة ناجحة مع الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف الذي وقّع معه عام 2010 اتفاق «ستارت 2» للحد من الأسلحة الاستراتيجية للدولتين. لكن الإخراج البوتيني المستفزّ لقضية إلجاء عميل الـ«سي آي إيه» ادوارد سنودن في روسيا غيّر مجرى الأحداث، إن لم يكن مجرى التاريخ.
من الواضح أن بوتين أدرك باكراً ضعف أوباما وسياساته لكنه فضّل استثمار ذلك في استعادة «أمجاد روسيا» وليس في مشاريع متقدّمة من شأنها أن تصنع وفاقاً دولياً سيساهم بدوره في تعزيز الاقتصاد الروسي ومعيشة الروس. وفيما صحّ دائماً اتهام دول الغرب بأنها راسخة في عقلية استعمارية فإن بوتين وصفها أخيراً بأنها تتصرّف كـ«الإمبراطورية» التي تملي رغباتها على «أتباعها». والمفارقة أن كل ما كتب في الغرب عن الرئيس الروسي، خلال الشهور الماضية، لم يصفه بأقل من «القيصر» و«الإمبراطور» أيضاً. لكن بوتين بالغ في ممارسة السياسة بتكتيكات الحرب الباردة حتى وقع ضحية في فخّها.
لا في سوريا، ولا بعدها في أوكرانيا، استطاع بوتين أن يبرهن أن لديه بديلاً أفضل من سياسات الغرب، وإذا كانت هذه سيئة فإنه جاء بأسوأ منها، وإذا كانت تغطّي خبثها بمعسول الكلام فهو أجاد بدوره اللعب على الألفاظ، كما في القول مثلاً إن «الشعب الأوكراني هو من يقرر» فيما تغلغل عملاؤه في الشرق لإقامة وضع جديد يقطع كل علاقة مع كييف، أو في القول إن «الشعب السوري هو من يقرر» فيما يلقن خبراؤه قوات النظام السوري «تقنيات» البراميل المتفجّرة وتزوّدها بواخره أحدث طراز من الدبابات والصواريخ. أما على المستوى السياسي فقد كرر بوتين المناورات ذاتها في الأزمتين، يحاجج بالقانون الدولي ويتلاعب به ويطلب الاحتكام إلى الشرعية الدولية ويعطّلها. لكن العالم رأى الكثير من ذلك على أيدي الأميركيين ولا يرغب في المزيد.
(صحيفة الاتحاد الإماراتية)