كتب جمال خاشقجي: السقوط العربي الكبير مؤلم ومثير للإحباط لأجيال مضت حلمَتْ بعهد عربي يحيي الأمجاد الغائبة، ولجيل حالي أُغلقت أمامه السبل في الحياة والحرية والرزق فحَلِمَ بمستقبل أفضل واعتقد أن الزمان زمانه عندما ازدهر ربيع 2011.
الأكثر إيلاماً أن لهذا السقوط ويلات ثلاثاً، أولاها أنه سيكون طويلاً، طويلاً، طويلاً. ثانيتها تفسر أولاها، كأنه عُمّ على الجميع، فلا تجد من يبحث عن طوق حقيقي للنجاة، حتى من سلم لا يبحث لنفسه أو لمن حوله من الهالكين عن ذلك الطوق الذي ينجيهم من السقوط الطويل المؤلم، كأنهم يعلمون أنه «لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم». أما الثالثة فهي الأكثر إيلاماً، بعدما يكتمل السقوط ونصل إلى القاع سيكون النهوض صعباً جداً. لماذا؟ لأننا سنحمل معنا إلى القاع البذور والأسباب نفسها التي أدت إلى السقوط وتعثر النهضة خلال أعوام الاستقرار المهدورة.
عندما نقلّب أسباب السقوط، نلوم الاستعمار، و «
سايكس بيكو»، والحدود التي رسموها على رمالنا، فنصفها بأنها كانت غير عادلة، لكن معظم الحدود في أوروبا غير عادلة، صنعتها حروب لا اتفاقات وتراضٍ. نلوم الاستعمار، ولكنه رحل، حتى إن دوله فقدت الاهتمام بأحوالنا. المتفائلون يقولون إننا نمر بما مرت به أوروبا، مخاض حرب الـ30 عاماً التي مزقتها في القرن الـ17 ثم ولدت أوروبا «الكرامة والشعب العنيد»، كما غنت السيدة فيروز للبنانيين وهم يخوضون حربهم الأهلية الطويلة العبثية.
لكن الحق أن أوروبا التي ولدت بعد ما يعرف بسلام وستفاليا، كانت قارة بائسة منهكة فاقدة للأخلاق والقيم، يتشكك أهلها في كل ما كان من ثوابتهم، وهم احتاجوا بعد تلك الحرب إلى 300 عام حتى استقرت كما نعرفها اليوم.
فهل نستطيع أن نفعل مثلها؟ كارثتنا أننا نحمل معنا خلال سقوطنا وانهيار دولنا الحديثة البذور نفسها التي أدت إلى السقوط: افتقادنا أدوات الحكم الراشد القائمة على سيادة القانون والاحتكام إلى الديموقراطية، مع تعصب واستبداد وقبلية وجهوية وجشع على الغنيمة. هذه البذور نحملها معنا دوماً في صعودنا واستقرارنا وهبوطنا، فتجعل السقوط أدهى والانهيار أشمل، مثلما نرى الآن في العراق وسوريا وليبيا، ومن قبلها الصومال، كما تجعله مؤلماً وطويلاً، حتى نستوحش ونفتقد الشعور بالألم. لا نتأثر بصور الذبح، والعمليات الانتحارية وسط مساجدنا وأسواقنا، ولا بخبر سقوط المئات جراء القصف بالبراميل المتفجرة أو على أيدي رجال الشرطة في تظاهرة سلمية. تَخَندَقْنا جميعاً في قلاعنا المذهبية أو السياسية أو المصلحية، فلم نعد نرى خارجها.
لقد أفشلت هذه البذور كل محاولات النهضة، التي تعد أساساً لتشكل الدولة الحديثة واستمرارها، فالدولة التي لا تتنافس وتسعى للحاق بركب الدول المتقدمة، تفقد تدريجياً أسباب وجودها واستمرارها ومبرراتهما في عالم ما بعد العولمة، إذ توحدت الأسواق والتشريعات، ووُضعت معايير دولية لكل أوجه الحياة يتحدد بها موقع الدولة في سلَّم القبول العالمي، وأتيحت لنا هذه الفرصة غير مرة طوال قرن كامل؛ منذ سقوط الدولة العثمانية والاستقلال والتشكل في دول حديثة ذات حدود متفق عليها وعلم وهوية ودستور.
ولكن بذور الفوضى التي حملناها معنا ضيعت أعوام الاستقرار التي كان علينا استغلالها لتكتمل دورة نمو دولنا، حتى تصل إلى النضج الذي يعطي وجودها فائدة في «ناد عالمي» لا يقبل بين أعضائه إلا من يحقق نهضة حقيقية، وقيمة مضافة، يحتاج إليها العالم ويحرص عليها، فيعينه إن تعثرت به السبل، مثلما فعلت أوروبا مع اليونان وإسبانيا والبرتغال عندما انهارت اقتصاداتها واقتربت من الإفلاس، فأنقذتها من عثرتها على الرغم من الكلفة العالية. هذه الشراكة هي التي افتقدتها
سوريا مثلاً، فلم يعرها العالم اهتماماً حقيقياً، وهو يراها تتقلب في لظى الهلاك والسقوط الطويل.
النهضة تعني التزام الدولة بمعايير عالمية في الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وارتفاع الدخل الفردي والتعليم والصحة، وحصة ملموسة في الناتج الاقتصادي العالمي، وشراكة في سوق منفتحة على العالم، أما أن يحتاج العالم إلى دولة لمجرد أنها منتج مهم لمادة خام، فهذا لا يوفر علاقة مستدامة، لأنها تبقى مهمة بمقدار ما توفر الدولة حصتها المطلوبة من المادة الخام، ويمكن أحياناً أن تستمر الدولة منتجة للخام، ولكن تفقد أهميتها في حال استغناء الاقتصاد العالمي عنه، نتيجة تطور علمي أو توافر بدائل اصطناعية، مثل ماليزيا، التي كان يمكن أن تكون اليوم من الدول الزراعية المهملة لو بقيت تعتمد على ما تنتجه من خام المطاط الطبيعي، الذي ما يزال متوافراً لديها لكن العالم لم يعد في حاجة إليه بعد اختراع بدائل منه.
وكذلك الأمر مع
الهند بالنسبة للقطن، ومصر أيضاً كان العالم يحتاج قطنها، لكن ماليزيا والهند تنبّهتا مبكراً فسلكتا سبيلاً في
نهضة صناعية، جعلت العالم يحتاج إليهما وينظر إليهما بوصفهما شريكتين حقيقيتين، أما مصر فعجزت ولا تزال، ذلك أنها من منظومتنا العربية التي تحمل معها بذور الفوضى والاستبداد وفقدان العدالة.
حتى الآن لا يبدو بيننا من يريد نفض هذه البذور المعطِّلة للحياة عنا، على الرغم من تاريخ عريق في الحضارة خلفنا، وإسلام ثري بالإبداع والتشريع والعدل نزعم الانتماء إليه، وبالتالي سنحملها معنا في تالي الأيام، في عصر ما بعد السقوط، عندما نتوقف عن الحرب لأننا فقط تعبنا منها، لا كرهاً بها، وسنجلس فوق ركام المدن وبين المتاريس نتبادل الاتهام والتلاوم، نعجز أن نجتمع تحت أطلال مجلس شعب، أو في مسجد عتيق سَلِمَ من مدافعنا، نجرب أنصاف الحلول، نصوّت على قراراتنا، نلتزم بنتيجة التصويت، نتفق على دستور وقانون يحكم بيننا، ونقبل التحاكم إليه.
لو فعلنا ذلك فسيكون هناك أمل بأن ثمة نهوضاً بعد السقوط، ولكني غير متفائل، فهذه الحرب في الصومال دامت ربع قرن، والحرب العراقية أكملت عقداً كاملاً، والسورية ستدخل عامها الرابع، ولا يوجد أخ أكبر يجمع ولا يفرق، ويرمي لكل الأطراف طوق نجاة.
(عن صحيفة الحياة اللندنية 20 كانون الأول/ ديسمبر 2014)