كتب
خالد الدخيل: في لقاء مع الفضائية القطرية تناول الشيخ صالح المغامسي مسألة الإرهابي الذي ينتمي إلى الإسلام: هل هو مسلم؟ أم كافر؟ وانطلق الشيخ المغامسي في إجابته على هذا السؤال الحساس مما جاء في الآية الكريمة من سورة السجدة التي تقول: «أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون».
وكان واضحاً ومباشراً في إجابته. يقول إن معنى «مؤمناً» كما ورد في الآية يشمل «كل مؤمن مات على التوحيد، على اختلاف درجاتهم». أما « فاسقاً» فهي بـ«معنى كافر، ويدخل فيها كل كافر مات على الكفر.... أياً كانت صبغته ما لم يكن موحداً». بناء على هذا التمييز فإن مناط الآية -بحسب الشيخ المغامسي- هو أن المؤمن لا يمكن أن يستوي مع الكافر عند الله. من هنا فإنه «حتى في التعامل لا بد أن يعرف أن للمسلم حرمة وكرامة عند الله وعند المسلمين لا ينزعها إلا كفره... ولا يمكن أن نلبسها كافراً أيا كانت حاله». ثم يضيف ملاحظة مهمة وذات دلالة هنا، وهي أن التمييز بين المؤمن والكافر وأنهما لا يستويان «قضية تتعلق بفهم
الدين على وجهه الصحيح». بعد ذلك يعطي مثالاً موت أسامة بن لادن لتوضيح إن كان مسلماً على رغم ما اقترفه تنظيم «القاعدة» الذي كان يتزعمه. يسلّم الشيخ المغامسي، تمشياً مع ما أجمع عليه أكثر علماء الأمة كما قال، بأن «التنظيم الذي كان يتبناه (ابن لادن) أضر بالأمة شيئاً عظيماً، وفيه ما فيه من الجرأة على الدماء وعلى الناس. لكنه كونه مات مسلماً فهذا دين يبقي له حرمة وكرامة المسلم. فيستغفر له ويترحم عليه ويصلى عليه». ومن ثم فإن الذين صلوا عليه «أحسنوا صنعاً».
رأي الشيخ المغامسي في هذه المسألة بليغ في وضوحه وشفافيته، ويعبر بأبلغ ما يكون عليه التعبير عن منطق الفكر الديني. وهو في الحقيقة رأي غالبية علماء المسلمين. وهذا ما أكده بيان مشيخة الأزهر في مصر الذي رفض تكفير تنظيم
الدولة الإسلامية «داعش»، بحسب ما جاء في صحيفة «الشرق الأوسط» الجمعة الماضي. وجاء البيان لتوضيح ما دار في «مؤتمر الأزهر لمواجهة العنف والتطرف» الذي عقد في القاهرة مطلع كانون الأول (ديسمبر) الحالي، وتحديداً ما قاله مفتي نيجيريا الشيخ إبراهيم صالح الحسيني في كلمته التي ألقاها في المؤتمر. وكان بعض وسائل الإعلام -وفق البيان- نسب إليه أنه أفتى بتكفير «تنظيم داعش»، وهو ما نفاه البيان. وتقول الصحيفة إن الأزهر وفقاً للبيان «يرفض تكفير (داعش).. لأنه لا تكفير لمؤمن مهما بلغت ذنوبه»، مضيفاً بأنه «لو حكمنا بكفرهم لصرنا مثلهم ووقعنا في فتنة التكفير، وهو ما لا يمكن منهج الأزهر الوسطي المعتدل أن يقبله بحال...».
وأورد موقع «بوابة الأزهر الإلكترونية» ما قاله الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، الأستاذ الدكتور محيي الدين عفيفي، وتأكيده أن الأزهر لا يكفّر أحداً نطق بالشهادتين، وذلك في حديث له مع فضائية «الحياة» المصرية. ومما قاله الدكتور عفيفي في هذا السياق: «إن مذهب أهل السُّنَّة يؤكد أن الإيمان القلبي أصل والعمل فرع، وعدم وجود العمل لا ينفي أصل الإيمان، وهذا ما استند إليه الأزهر في عدم تكفير داعش».
وأضاف: «يغيب عن المواطنين أن قضية الكفر لا تملكها جماعة أو الأزهر أو تنظيم، فهي قضية شرعية لا يملكها أحد إلا الله، وهذا ما قرره القرآن وما قررته السنة النبوية»، موضحاً أنه «لو كفَّر الأزهر «داعش» لفتح الباب لتكفير كثيرين، مثلما حدث من الخوارج حين كفَّروا الإمام علي بن أبي طالب وكثيراً من المسلمين في ذلك الوقت». ثم أضاف: «التكفيريون يعتبرون أن العمل ركن من أركان الإيمان، ولذلك يكفّرون بترك العمل ولا يكتفون بمجرَّد الإيمان»، مؤكداً أن الأزهر لا يعتبر أنصار «داعش» كفاراً طالماً أنهم يقولون: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
من الواضح أن موقف الأزهر يتقاطع مع موقف الشيخ المغامسي في مسألتين: عدم كفر أسامة بن لادن، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأن التوحيد، أو النطق بالشهادتين، والإيمان القلبي هو الأصل، كما قال د. عفيفي، في تحقق الإيمان، وأن العمل فرع لا ينفي وجوده أو عدمه أصل الإيمان. وهذه مسألة خلافية قديمة يدور الخلاف حولها في علاقة الإيمان بالعمل، وخصوصاً ارتكاب الكبائر، أو الإيمان وشروطه. ونشأت على أساسها الفرق والنحل الإسلامية. ومناط الخلاف هنا هو: هل الإيمان اعتقاد بالقلب فحسب، كما تقول المرجئة والأشاعرة، أم اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح؟ وبالتالي يزيد وينقص بالعمل كما تقول المعتزلة، ويقول أهل السلف. أما الخوارج فيرون أن مرتكب الكبيرة كافر. ومن الواضح أيضاً أن هذا الخلاف الديني يتمحور حول مفهومين دينيين وشروط وموجبات كل منهما، وهما مفهوم الإيمان، ومفهوم الكفر. من هذه الزاوية يتسق الرأي بعدم تكفير أسامة بن لادن وتنظيم «القاعدة»، وكذلك تنظيم «داعش» تماماً مع منطق الفكر الديني الذي تبلور قبل قرون من الآن، هذا واضح. ما ليس واضحاً هو أن هذا الرأي يعود كما كان عليه بمعطياته وشروطه الدينية قبل قرون، في عصر اختلف فيه الإطار الاجتماعي والسياسي للمسألة. فموقف الأزهر ظهر في إطار دولة وطنية هي مصر، وموقف الشيخ المغامسي وغيره يظهر في إطار دولة وطنية أخرى، هي السعودية. وإذا كان الكفر حكماً دينياً، فإن الإرهاب فعل سياسي. وعدم تكفير الإرهاب انطلاقاً من التزام دقيق وصارم بمعايير عقيدة الولاء والبراء، سيستخدم للتعذير لارتكاب جرائم وتجاوزات سياسية كبيرة بذرائع دينية.
وهنا يتصادم منطق الدين مع منطق الدولة. فالإرهاب بالنسبة الى الدولة فعل سياسي إجرامي يتطلب الأمر أولاً اجتثاثه عملياً، وثانياً اجتثاثه فكرياً. وثبت بعد أكثر من 13 عاماً مما يسمى بالحرب على الإرهاب، أن الاجتثاث الأول غير ممكن من دون تحقيق الاجتثاث الثاني. وذلك لأن الفعل يتغذى من الفكر، بغض النظر عن نيات من ينتج هذا الفكر. لكن كيف يمكن تحقيق الاجتثاث الثاني في ظل تصادم فكري مضمر، كما هو حاصل الآن، بين منطق الدين من ناحية، ومنطق الدولة من ناحية أخرى، وعدم قدرة أي منهما على الالتقاء فكرياً مع الآخر في المنتصف لحسم هذه المسألة؟ والأرجح أن عدم القدرة على الحسم هنا يعود في أصله إلى اختلاف المنطلقات بين الطرفين، وبالتالي اختلاف المنطق الذي يحكم موقف ومصالح كل منهما. فالدولة لا تستطيع العمل وفقاً لمفهوم الكفر والإيمان. لأنه فضلاً عن أن الديني والسياسي يتداخلان في كل من هذين المفهومين، إلا أن الحسم النهائي في شأن كل منهما -بوصفهما مفهومين دينيين- يعود في الأخير إلى الله، لا إلى الدولة. في الوقت نفسه لا تستطيع المؤسسة الدينية، كالأزهر مثلاً، أن تعمل وفقاً للمفاهيم السياسية للدولة، لأنها بذلك ستخرج عن المنطق الذي تأسست عليه منذ قرون طويلة. من هنا لا يزال الصدام، وإن كان مضمراً أحياناً، بين الدين والدولة، قديماً قدم المسألة الخلافية من موضوع الإيمان والكفر. تبدو الدولة هنا أيديولوجياً رهينة لخلاف لا علاقة لها به. وسياسياً تتصرف وفقاً لمنطقها ومصالحها، لكن من دون تأسيس فكري متين لهذه السياسة.
(صحيفة الحياة اللندنية)