الحرب الاقتصادية بين
أوروبا وأمريكا من جهة وروسيا من جهة أخرى، أعادت إلى العالم مشهد الحرب البارة من جديد.
ففي ظل عقوبات اقتصادية مفروضة على
روسيا من قبل أمريكا وأوروبا، فقدت موسكو الكثير من المميزات الاقتصادية، وتعرضت عملتها المحلية لمزيد من الانخفاض بنحو 40 %، كما أن رصيدها من احتياطيات النقد الأجنبي فقد 100 مليار دولار خلال عام، ليصل إلى 421.4 مليار دولار في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مقابل 524.3 مليار دولار في نفس الشهر من العام الماضي.
ولا تلوح في الأفق بوادر لتهدئة الأزمة بين الطرفين، فأمريكا وأوروبا يريدان أن يصيبا روسيا في مقتل من خلال أهم مواردها الاقتصادية، وهو
الغاز الطبيعي، وفي نفس الوقت تسعى روسيا لاستخدام الغاز الطبيعي كورقة ضغط على أوروبا التي تستهلك جانبا كبيرا منه في حصولها على الطاقة.
وتمتلك روسيا ثرورة من النفط والغاز مما يجعلها في موقف قوة، ولكن في حالة تصعيد العقوبات، وذهاب أوروبا لتدبير احتياجاتها من النفط والغاز من خارج روسيا، فستكون روسيا في موقف صعب لتسويق ثروتها من النفط والغاز، وقد تستمر في سياسة النفط الرخيص التي بدأتها مؤخرًا مع الصين وتركيا.
فروسيا لديها 80 مليار برميل من الاحتياطي النفطي، وتنتج يوميًا 9.9 مليون برميل من النفط، كما يتوفر لها ثرورة هائلة من الغاز الطبيعي بنحو 4.7 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي كاحتياطي، وتنتج منه سنويًا 60.7 مليار متر مكعب. وتعتبر روسيا أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم.
إلا أن المفوضية الأوروبية تخطط على الأجل الطويل ليكون لأوروبا أكثر من مورد للإمدادات النفطية وألا تكون أسيرة الغاز الطبيعي من روسيا، فسعت خلال الأيام الماضية للبدء في إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر الأراضي التركية وجورجيا، وإن كان الكميات التي سيوفرها هذا الخط من الغاز الطبيعي تقل كثيرًا عن الخط الذي كانت تمهد له أوروبا مع روسيا عبر المرور من أراضي 7 دول أوروبية أخرى.
فخط أنابيب نقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، سيوفر 16 مليار متر مكعب سنويًا، سيكون نصيب تركيا منها 6 مليارات متر مكعب، والباقي لأوروبا، بينما خط الغاز الممتد من روسيا عبر 7 دول أرووبية أخرى تبلغ طاقته 63 مليار متر مكعب، إلا أن الخطة الأوروبية ترمي إلى تفعيل أكثر من خط لنقل الغاز الطبيعي من دول القوقاز، وهو ما يعد التفافا على روسيا، والتي كانت تعتبر هذه الدول العمق الاستراتيجي لها.
ويتوقع لخط أنابيب نقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى أوروبا مرورًا بجورجيا وتركيا، أن يدخل خدمة الإمدادات الغازية في عام 2020، وقد أتت خطوة المفوضية في هذا الشأن دون أن تعلن روسيا من قبلها توقفها عن تفعيل خط أنابيب مد الغاز عبر الدول الأوروبية، وهو ما يفسر في إطار سعي أوروبا لتأمين احتياجاتها على الأمد الطويل دون أن تكون تحت ضغط السماح أو المنع الروسي.
تستخدم أوروبا حاليًا ما قيمته 553 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، تستود منها 444 مليار متر مكعب، وهو ما يعني أن أوروبا تعتمد على استيراد 80.2 % من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وهي نسبة كبيرة، تجعلها تولى أهمية كبيرة لتأمين احتياجاتها على الأجل الطويل.
وتخطط أوروبا لرفع معدل استهلاكها للغاز في توليد الطاقة من نسبة 40 % حاليًا إلى 60 % في عام 2030، وهو ما يعني أنها قد تلجأ إلى تفعيل كافة السبل لتمديد أكبر عدد ممكن من أنابيب مد الغاز من مصادر متعددة.
دلالات الخطوة الأوروبية
تعد خطوة المفوضية الأوروبية بمثابة خطوة على طريق استمرار الحرب الاقتصادية على روسيا، في الأجل الطويل، فاستخدام آلية تمديد خطوط أنابيب نقل الغاز بطبيعتها تفرض وجود مصالح مشتركة بين أكثر من طرف، بين الشركات المنتجة والدول صاحبة الحقول والبنوك التي تمول عمليات إنشاء خطوط الأمداد والدول المستهلكة، وبذلك استطاعت أوروبا أن تخلق تلك المصالح الاقتصادية بينها وبين أربيجان وجورجيا وتركيا والبنوك الممولة على الأمد الطويل، بما يؤدي إلى تهميش روسيا في عمقها الاستراتيجي، وهو دول القوقاز، حيث كانت اذربيجان أحد الدول الخاضعة للاتحاد السوفيتي سابقًا، والذي كانت روسيا تعتبر نفسها البوابة الطبيعية لإقامة مصالح اقتصادية مع هذه الدول.
حسب الاحصاءات فإن الغاز الروسي يمثل 60 % من استخدامات أوروبا من الغاز، وهي نسبة كبيرة، من الصعب في ظل الصراع بين الطرفين أن تبقى كما على حالها، وإلا أصبحت ورقة ضغط كبيرة على أوروبا.
وتسعى أوروبا أن تعدد مصادر حصولها على الغاز الطبيعي، بحيث تكون الحصة الروسية سهلة التخلص منها، أو استبدالها، وفي نفس الوقت فرض ضغوط على روسيا بالبحث عن أسواق أخرى لتسويق الغاز الخاص بها.
في الوقت الذي أعلنت فيه المفوضية الأوروبية عزمها على تدشين العمل بخط أنابيب نقل الغاز الطبيعي من اذربيجان إليها، لم تتخذ روسيا قرارًا مقابلًا بتجميد العمل في خط لنقل غازها لأوروبا، وهو ما يعني أن روسيا في موقف شديد الصعوبة، وأنها تراوغ اقتصاديًا في إطار امكانيات محدودة.
على الرغم من أن روسيا لديها فرصة وهي أن خط أنابيب الغاز بينها وبين أوروبا يمر عبر 7 دول أوروبية، وهو ما يعني خلخلة المصالح الاقتصادية لهذه البلدان، سواء بحصولها على حصة من الغاز المنقول عبر هذا الخط، أو بتحصيلها لرسوم العبور، ولكنها على ما يبدو تثق بأن هذه الدول ستفضل علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بحكم عضويتها فيه، عن تلك المصالح الاقتصادية المرتبطة بخط نقل الغاز الطبيعي من روسيا.
ربما يكون هدف المفوضية الأوروبية بخطوة تدشين خط نقل الغاز الطبيعي من اذربيجان، إضعاف الموقف الروسي فيما بعد بشأن التفاوض سواء في الملفات السياسية العالقة بينهما، أو بخصوص اتفاقيات تصدير الغاز الروسي، فعلم روسيا بأن هناك خطط بديلة يجعلها بلا شك تقبل بحلول ممكنة، بعكس موقفها الحالي الذي يجعلها في موقف قوى.
مكاسب تركيا
تمديد خط أنابيب الغاز الطبيعي بين أذربيجان وأوروبا مرورًا بالأراضي التركية، يقوي من موقف تركيا إقليميًا في هذه المنطقة بجعلها أحد نقاط التحكم في سلعة استراتيجية لأوروبا، ومن جهة أخرى فإنها لا تقف عند حد تحصيل رسوم مرور الغاز الطبيعي عبر الأنابيب بأراضيها وفقط، ولكنها ضمنت إمدادات من الغاز الطبيعي بنسبة ليست بسيطة من إنتاج الخط، فنصيب تركيا نحو 6 مليارات متر مكعب سنويًا، وبما يعادل 37.3 % من إجمالي تدفقات الغاز الطبيعي بخط الأنابيب المزمع إقامته.
والمعروف أن تركيا مستورد صاف للطاقة، وفي نفس الوقت الذي تسمح فيه تركيا بتمديد خط الأنابيب بأراضيها، تستقبل "بوتين" رئيس روسيا وتوقع معه عقود بقيمة تصل لـ 100 مليار دولار، وتحصل منه على تخفيض 6 % على وارداتها من الغاز الطبيعي وزيادة الكميات المستوردة.
وموقف تركية بهذه الصورة يجعلها موضع اهتمام طرفي الصراع، وهو ما يفرض عليها تحديا كبيرا خلال المرحلة القادمة، يتمثل في كيفية تعظيم مصالحها في ظل الصراع بين روسيا من جها وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، ولعل النفط والغاز أحد الملفات التي يمكن لتركيا أن توظفها بشكل جيد نظرًا لأهمية هذه السلعة الاستراتيجية للطرفين.